ربط الإسلام الكثير من عباداته وشعائره ـ كالصيام والحج ـ وكذا أحكامه ـ كالقتال في الأشهر الحرم ـ بالتقويم القمري الذي كان معتمداً عند العرب قبل الإسلام، واعتمدته شعوب وأمم مختلفة، بينما اعتمد آخرون التقويم الشمسي.

 

 ولا يخفى أن لكل تقويم خصائصه ومميزاته، فمن مزايا التقويم الشمسي، أنّه ثابت على مدار الفصول، الأمر الذي يُساعد على ضبط المواعيد وتحديد المواسم الزراعية وغيرها، أما التقويم القمري، فهو متحرك، وتتحرك معه الفصول الأربعة، ويصعب تحديد بدايات الشهور ونهاياتها استناداً إليه، مع اعتماد الوسيلة التقليدية في الإثبات، وهي الرؤية، ما يجعل من اعتماده في تحديد الآجال والمناسبات، ومنها العطل السنوية، أمراً شاقاً، لعدم إمكانية ضبط ذلك ومعرفته مسبقاً، وربما كان لاعتماده من قبل المشُرِّع الإسلامي في أداء الوظائف الدينية، ومنها وظيفة الصوم، وكذا الحج، ميزة إيجابية، وهي أنه لا يجعل من هذه العبادات ثابتةً على مدار السنين في وقت بعينه، بل هي تتحرك من سنة إلى أخرى، فالصوم ـ وكذا الحج ـ لا يؤدَّى في فصل واحد بعينه، بل أحياناً يؤدى في فصل الصيف، وأخرى في فصل الشتاء، وفي بعض السنين، يقع الصوم في نهار قصير، وأخرى يقع في يوم طويل، ولا يخفى ما لذلك من فوائد وحِكم كثيرة

 

وبصرف النظر عن ذلك، فقد كانت الرؤية هي الوسيلة المعتمدة عند الأمم السابقة في إثبات الهلال،  لأنها الوسيلة الأكثر دقةً ـ آنذاك ـ في التعرّف إلى بدايات الشهور، وقد أقرّ الإسلام هذه الوسيلة مع شيء من التهذيب والتنظيم. وأشهر نص ديني أكّد هذه الفكرة، هو الحديث النبوي الذي رواه المسلمون جميعاً عن النبي(ص)، وهو قوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"(1)، وقد درج المسلمون على اعتماد الرؤية البصرية لتحديد صومهم وإفطارهم ردحاً طويلاً من الزمن، ولكن تطوّر علم الفلك من جهة، وحركة الاجتهاد الفقهيّة من جهة أخرى، طرحا تساؤلاً مهماً في هذا المجال، وهو أنّه هل يمكن اعتماد قول الفلكي في إثبات الشهور الهلالية؟ وما هو الموقف لو ثبت الهلال بقول الفلكي؛ فهل نرتّب الآثار الشرعية عليه أم لا؟

 

وكان الرأي الفقهي السائد عند غالبية فقهاء المسلمين، هو عدم اعتماد المعطيات الفلكية، لأدلة ووجوهٍ نأتي على ذكرها، إلاّ أن بعض الفقهاء المعاصرين ذهبوا إلى اعتماد قول الفلكي بضوابط معيَّنة، وقد أثار تبني هذا الرأي والاعتماد عملياً(2) عليه، أثار ولا يزال يثير لغطاً واسعاً، ولا سيما مع كل إطلالة مباركة لشهر رمضان. ولذلك كله، ارتأينا أن نسلّط الضوء على هذا الموضوع في شتى أبعاده ومستنداته الفقهية، في محاولة متواضعة نأمل أن تسهم في خلق حراك فقهي بشأن هذه المسألة الهامة والحسّاسة.

 

وقبل أن نعرض للبحث الفقهي الاستدلالي في المسألة، وملاحظة ما هو المُستفاد من النصوص وترجيحها لأيّ واحد من الوجوه الآتية في تحديد بداية الشهر شرعاً، لا بدَّ من أن نمهّد ببيان بعض الأمور الهامة:

 

 

 

القيمة العلميّة لقول الفلكي

 

الأمر الأوَّل: في تحديد القيمة العلمية لقول الفلكي، والذي يمكننا قوله في المقام بكل ثقة: إن إفادة قول الفلكي للقطع، لا ينبغي أن تبقى موضع جدل أو تشكيك، بل إنّ التشكيك في علم الفلك ورمي الفلكيين بالتخرص والتظني غدا أمراً معيباً، لأنه يكشف عن جهل المتكلم بما وصلت إليه المعطيات الفلكية من دقة بالغة، أصبحت نسبة الخطأ فيها معدومةً أو شبه معدومة، يقول العالم اللبناني الدكتور يوسف مروَّة (دكتوراه في الفيزياء النووية):

 

"إذا تعاملنا مع الجداول الحديثة التي يُشرف عليها علماء الفلك المعاصر، نجدها في غاية الدقة، بحيث لم يحدث خلال هذا القرن (القرن العشرين) على الأقل ـ بناءً على الجداول المتوفرة في المكتبات العامة ـ لم يحدث ولو مرةً واحدةً أن اختلفت جداول شروق وغروب وكسوف وخسوف الشَّمس والقمر وسائر الكواكب السيارة في المجموعة الشمسية بمقدار جزء واحد من عشرة أجزاء من الثانية، فالذي يدَّعي أنّ عند علماء الفلك اختلافاً في أقوالهم، فأين الخلاف؟! فمثلاً: عندما يعيِّن علماء الفلك أنّ هلال ذي الحجة في هذه السنة (1420هـ) وُلد نهار الأربعاء في 17 آذار الساعة 6.42 دقيقةً مساءً، فإنَّ هذا الرقم نجده في مئتي زيج (كتيب/جدول) من إصدار جامعة موسكو  أو بكين أو طوكيو أو باريس أو روما أو لندن أو (أكسفورد) أو (كامبردج)، أو أي جامعة فلكية في العالم، لا تختلف ولو بجزء من عشرة أجزاء من الثانية"(3 ).

 

ومن الغرابة بمكان، أن ترى البعض من الفقهاء ـ رغم أنه يعيش في عصر الذروة العلمية ـ لا يزال إلى الآن يشكك في هذه البديهة، بينما نجد فقيهاً جليلاً مرّ على وفاته ما يقرب من أربعة قرون، وهو الشيخ بهاء الدين العاملي، يصرِّح بأن قول الفلكيين يفيد العلم. يقول(رحمه الله): "وأمّا قولك إن شيئاً من كلامهم ـ يعني علماء الفلك ـ لا يفيد علماً ولا ظناً، فبعيد عن جانب الإنصاف جداً، وكيف لا يفيد شيء من كلامهم علماً ولا ظناً، وقد ثبت أكثره بالدلائل الهندسيّة والبراهين المجسطية التي لا يتطرق إليها شوب شبهة، ولا يحوم حولها وصمة ريب، كما هو ظاهر على من له دراية في ردّ فروع ذلك العلم الشريف إلى أصوله(4).

 

ولا يخفى أن الحكم على أقوال الفلكيين بإفادة اليقين أو الاطمئنان أو عدم إفادتها لذلك، يجب أن يقوم على أسس موضوعية، ولا يجوز أن يرتكز على أساس من المزاج أو الهوى أو المعرفة الناقصة، والأساس الموضوعي يتمثل بالرجوع إلى أقوال الفلكيين أنفسهم، وإلى معطيات علم الفلك الحديث، وملاحظة مدى دقتها ومطابقتها مع الواقع، ولا يصحُّ بحالٍ من الأحوال أن تُحدَّد درجة الوثوق بكلماتهم اعتماداً على الخلفيّة الثقافية التي يحملها الفقيه أو الباحث عن علم الفلك، والتي ربما تعود إلى قرون أو عهود خلت، أو تكون متأثرةً إلى حدٍّ بعيد بكلمات الفقهاء السابقين الذين نصّوا على ظنيّة أقوال الفلكيين أو على كثرة خطئهم، كما لا يجوز بطبيعة الحال الاعتماد على أقوال المنجمين أو شهادات غير ذوي الاختصاص من منتحلي الصفة، بل إن شهادات  هؤلاء تضرّ بمصداقية علم الفلك وصورته نتيجة الخلط بين الفئتين لدى الكثير من الأوساط.

 

وهنا كلمة حق لا بدّ من أن نقولها: وهي أن المراصد الفلكية في العالم تملك من المصداقية ما يكفي لتحدد بكل أمانة وشفافية مقدار نسبة الاحتمال في إخباراتها، وفقاً لما تملكه من معطيات، فإذا لم تكن تملك معطياتٍ يقينيةٍ، فهي تربأ بنفسها عن الحديث بلغة الجزم، وإنما تتحدث عن توقعات أو احتمالات أو ما إلى ذلك.

 

ولا يخفى أن شهادات الفلكيين بالتولد الفلكي هي شهادات يقينية أو اطمئنانية، لأنها تقوم على حسابات دقيقة نسبة الخطأ فيها شبه معدومة، كما أشرنا سابقاً، وأما شهاداتهم بقابلية الرؤية، فهي تخضع لعدة اعتبارات ومعطيات، وهذه المعطيات هي التي تملي عليهم الحكم بقابلية الهلال للرؤية يقيناً أو ظناً أو احتمالاً، ومن المعلوم أن الكلام حول حجيّة قول الفلكيين إذا شهدوا بإمكانية الرؤية ـ على تقدير القول بذلك ـ هو فيما إذا كانت المعطيات التي بأيديهم تبعث على اليقين أو الاطمئنان، دون ما إذا كانت هذه المعطيات لا تفيد سوى الظن أو الاحتمال.

 

بين الفلك والتنجيم:

 

الأمر الثاني الذي نرى ضرورة التنبيه عليه: هو أن علينا أن لا نخلط بين علمي الفلك والتنجيم، أو بين الفلكي والمنجِّم. فالفلك، أو علم الهيئة، كما قد يسمى، هو علم يقوم بمهمة الرصد والمسح السماوي ودراسة قوانين حركات الأجرام السماوية ومداراتها، ويعمل أيضاً على إجراء القياسات والاختبارات والحسابات المتعلّقة بها(5). وهذا العلم هو من العلوم النافعة والشريفة، والإسلام لم ينه عنه إطلاقاً، بل إنه قد شجَّع عليه، كما شجَّع على اكتساب المعارف والعلوم الأخرى، وأراد للإنسان أن يتعرف أسرار الكون ومجاهله، بما في ذلك أوضاع الكواكب، قال تعالى:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] ونحوه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام:97]. فهذه الآية أو تلك، وكذا غيرهما من الآيات، لا تخلو من إيحاءات وإيماءات إلى أهمية ضرورة التعرّف إلى مواقع الأفلاك وأوضاعها، وهذا ما فهمه المسلمون الأوائل إلى امتداد تاريخهم، ولهذا وجدنا أنهم قد برعوا في علم الفلك، وكانت لهم إسهامات تأسيسية على هذا الصعيد، بل إن هذا العلم قد ترعرع في الحواضر والمعاهد العلميّة، خلافاً لعلم التنجيم الذي يربط الحوادث التي تحصل للإنسان، من السعادة والشقاء والصحة والمرض، أو غيرها من الحالات النفسية، بمواقع النجوم عند ولادتها، ويزعم أنه يعرف من خلال النجوم حظوظ الناس ومصير حياتهم ومستقبلهم، وهذا العلم لا يستند إلى قاعدة علمية أو شرعية، ولذا نهت عنه النصوص والراويات المتعددة الواردة عن النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع)، كما سيأتي مزيد تحقيق لذلك. وإنّه لمن الغريب حقاً أن يستمر الخلط بين التنجيم والفلك لدى بعض الفقهاء(6) إلى يومنا هذا.

 

تطوّر فقهي

 

الأمر الثالث الذي يجدر بنا تأكيده، هو أنَّ ثمّة تطوّراً إيجابياً ملحوظاً لدى غالبية الفقهاء المعاصرين في النظرة إلى علم الفلك، وإمكانية الاستفادة من معطياته ونتائجه، وتوظيفه في تحديد بدايات الشهور، مع العلم أنه ليس لدى الفقهاء، أو غالبيتهم، أي توقف أو تحفظ حول إماكينة الاستفادة من المعطيات الفلكية في إثبات الخسوف أو الكسوف أو الزوال، وهذه الإيجابية نرى أنها امتدت ولو جزئياً إلى مسألة بداية الشهور، ولهذا وجدنا غير واحد من الفقهاء ممن لا يعتدُّون برأي الفلكي في الإثبات، لا يمانعون من الأخذ به في الجانب السلبي، أعني الأخذ بالمعطيات الفلكية في تقييم الشهادة بالرؤية وقبولها أو رفضها، فإذا كان علماء الفلك يؤكدون أن الهلال لم يتولّد بعد، فلا تقبل الشهادات بالرؤية، لأن حجيّة الشهادة أو غيرها من الأمارات، منوطة بعدم حصول القطع أو الاطمئنان بخطئها، وقد كان الشهيد الصدر من السبَّاقين إلى تبني هذا الرأي.

 

يقول رحمه الله: "ينبغي أن يلحظ مدى ما يمكن استفادته من الوسائل العلمية الحديثة، من الأدوات المقرَّبة والرصد المركَّز، فإنّ رؤية الهلال بهذه الوسائل، وإن لم تكن كافيةً في إثبات الشهر، ولكن إذا افترضنا أن التطلّع إلى الأفق رصدياً لم يتح رؤية الهلال، فهذا عامل سلبي يزيل من نفس الإنسان الوثوق بالشهادات ولو كثرت، إذ كيف يرى الناس بعيونهم المجردة ما عجز الرصد العلمي عن رؤيته"(7)

 

وهكذا يمكن الاستعانة بالمعطيات الفلكية لتعيين موضع الهلال، مقدمةً لالتماس الرؤية وتحديد جهة الاستهلال. يقول الشهيد السيِّد محمد الصدر:

"يمكن الاستفادة من المراصد الحديثة من الناحية الفقهية في عدة موارد:

 

أولاً: يمكن أن يثبت بها أن الهلال لا وجود له أصلاً، الأمر الذي يوفّر الجهد للناظرين بمحاولة رؤيته.

 

ثانياً: أن يثبت بها أن الهلال صغير جداً، بحيث لا يكون قابلاً للرؤية، الأمر الذي يوفّر الجهد أولاً، ويثبت عدم إمكان بدء الشهر ثانياً.

 

ثالثاً: أن يثبت أن الهلال كبير، بحيث يكون قابلاً للرؤية، الأمر الذي يمكن به إثبات أول الشهر وإن لم يره بالعين المجردة أحد.

 

رابعاً: أن يثبت بالمرصد جهة وجود الهلال وإحداثياته، حتى ينظر نحوها الناظرون ويركِّزوا عليها، دون أن يبذلوا جهداً ضائعاً في الأطراف الأخرى"(8).

 

ويقول أحد الفقهاء البارزين، في إجابة له عن استفتاء ورده حول إمكانية الاعتماد على أقوال الفلكيين: "الحقيقة هي أن هناك تفاوت كبير (هكذا والصّحيح: تفاوتاً كبيراً) بين زماننا والزمان الماضي الذي كان يُقال فيه (لا عبرة بقول المنجمين)، أو أنه يكفي شهادة عدلين في هذا الموضوع، وفي السنوات الأخيرة، أصبحت حسابات المنجمين(9)، خصوصاً مع الاستفادة من الوسائل الجديدة، أكثر دقةً وتنظيماً بشكل رأيناه في مورد كسوف الشمس، حيث إنهم حسبوا بدقة مقدار الكسوف وزمانه في البلاد المختلفة. واعتماداً على هذه الحسابات، اجتمع العلماء من مختلف أنحاء العالم في النقاط التي توقعوا أن يكون الكسوف فيها كاملاً، وقد رأوا الكسوف في تلك الساعة التي كانوا قد توقعوها. ومع الالتفات إلى هذا الوضع يقيناً، تكون توقعاتهم بالنسبة إلى طلوع الهلال أكثر اعتباراً من قبل..."(10) وهذا الكلام، وإن كان لا يزال يعتبر أنّ أقوال الفلكيين في مسألة الهلال هي مجرد توقعات، لكنه يعتبر خطوةً متقدمةً نسبياً في هذا المجال.

 

تحديد موضوع الصوم:

 

 مع اتضاح ما ذكرناه من أمور تمهيدية، ندخل في محل البحث بشكل مباشر، والطريقة المنهجيَّة لمقاربة هذه المسألة وإبداء الرأي فيها، تفرض علينا بادئ ذي بدء تحديد مفهوم الشهر لدى المشرِّع الإسلامي.

 

 والاحتمالات المتصوَّرة في ذلك ثلاثة:

1- افتراض أن الشهر ظاهرة كونية تبدأ بخروج القمر من المحاق(11) وتنتهي بدخوله فيه، أي أنّ المتشرِّع لم يتدخل في تحديد مفهوم الشهر، بل الشهر التكويني هو نفسه الشهر الشرعي، وعلى هذا الاحتمال الذي سوف نصطلح عليه بـ التولّد الفلكي، لن يكون لرؤية الهلال فعلاً، أو وصوله إلى درجة تمكن معها رؤيته، أية موضوعية أو قيمة ذاتية. وعليه، فلو شهد الفلكي بخروج القمر من المحاق، فلا مانع من اعتماد قوله.

 

2-أن الشهر القمري يبدأ عندما يُصبح القمر في منزلة تجعله قابلاً للرؤية، وإن لم يُرَ بالفعل لوجود بعض الموانع، وطبيعي أن هذه المنزلة تكون ـ بحسب التجربة والمعطيات ـ متأخرةً زمناً عن بداية خروج القمر من المحاق، وتخضع لعدة اعتبارات، منها: عمر الهلال، وبعده الزاوي عن شعاع الشمس، ومدة مكثه بعد مغيبها(12). وبناءً على هذا الاحتمال، الذي سوف نصطلح عليه بـ "إمكانية الرؤية" أو قابليتها، فإنّ قول الفلكي يمكن أن يكون معتمداً أيضاً إذا شهد بإمكانية الرؤية.

 

 

3-أن الشهر القمري لا يبدأ إلا عندما يُرى الهلال خارجاً رؤيةً حسيّةً فعليةً. وبناءً عليه، فلا قيمة لقول الفلكي، سواء شهد بولادة الهلال أو بإمكانية رؤيته، لأن هذا الاحتمال يفترض موضوعية الرؤية.

 

والذي نُلاحظه في كلمات الفقهاء، أن هناك قائلاً بكلِّ واحد من هذه الاحتمالات، أما القول بكفاية التولد الفلكي، فقد تبنَّته بعض الدول الإسلامية(13)، وله وجه فقهي ستأتي الإشارة إليه. وأما القول بإمكانية الرؤية، فقد تبنَّاه غير واحد من الفقهاء(14)، وأما القول الثالث الذي لا يكتفي بإمكانية الرؤية، وإنما يشترط الرؤية الفعلية، فهو ظاهر غير واحد من الأعلام(15).

 

حجيّة قول الفلكي

 

مع اتضاح الوجوه الثلاثة في تحديد بداية الشهر شرعاً نقول:

إن إثبات الحجيّة الشرعية لقول الفلكي ـ سواء شهد بالتولد أو بإمكانية الرؤية ـ تتوقَّف على تمامية أمرين:

 

1- وجود المقتضي للأخذ بقوله.

 

2-فقد المانع. والمانع المتصوَّر في المقام إمَّا:

أ‌- - وجود دليل خاص أو عام يمنع من الأخذ والتعويل على أقوال الفلكيين.

ب‌- - قيام الدليل على موضوعية الرؤية البصريّة، وهو القول الثالث من الأقوال المتقدِّمة، فإن تمامية هذا القول، تعني إسقاط حجيّة قول الفلكي، سواء شهد بالتولّد أو بإمكانية الرؤية.

 

ثم إذا تخطينا هذين الأمرين بنجاح، وثبت وجود المقتضي للأخذ بقول الفلكي وعدم المانع من ذلك، نأتي إلى مرحلة ثالثة، نبحث فيها عن مدى حجيّة قول الفلكي؛ فهل نأخذ بقوله لو شهد بالتولّد ونرتّب الآثار الشرعيّة على ذلك؟ أم لا بدّ من أن يشهد بالولادة وبوصول الهلال إلى درجة تجعله قابلاً للرؤية؟

 

 وبعبارة أخرى: هل إن الصحيح هو القول الأول الذي يرى أن موضوع الصوم أو غيره من العبادات المرتبطة بالهلال، هو الشهر كظاهرة كونية تبدأ بخروج القمر من المحاق، أو هو القول الثاني الذي يرى أنه لا يكفي مجرد التولد، بل لا بدّ من وصول القمر إلى درجة تجعله قابلاً للرؤية؟

 

فالبحث يقع في مقامين:

 

الأوَّل: في إثبات حجيّة قول الفلكي عموماً، وبصرف النظر عن شهادته بالرؤية أو الولادة.

 

الثاني: في اختيار القول بكفاية التولد الفلكي أو بإمكانية الرؤية.

 

المقام الأول: (حجيّة قول الفلكي عموماً)

 

والكلام في هذا المقام يقع على مرحلتين:

 

الأولى: وجود المقتضى لحجية قول الفلكي. الثانية: فقد المانع

 

المرحلة الأولى:

 

يمكن الاستدلال لحجية قول الفلكي بأحد تقريبين:

 

الأوَّل: إن شهادة الفلكيين ـ بالتولد أو بإمكانية الرؤية ـ تفيد اليقين أو الاطمئنان، وكلاهما حجّة، أمّا القطع فحجيته عقليّة، وأما الاطمئنان فحجيّته عقلائية، لأنه علم عرفي، والسيرة العقلائية جرت على الاكتفاء به، وهي ممضية من الشارع.

ويظهر من بعض الفقهاء(16)، أن الذي يمنعهم من الأخذ بشهادات علماء الفلك، هو هذه المسألة بالذات، أعني أنها لا تفيد سوى الظن، إلاّ أنك عرفت وهن هذا الكلام وبعده عن الصحة والدقة.

 

ومن خلال ما تقدَّم، يتَّضح أنه لا يمكن التمسك للمنع من الأخذ بأقوال الفلكيين، بالإطلاقات الناهية عن الأخذ بالظن، لما عرفت من أن إفادة أقوالهم لليقين لا ينبغي أن تبقى موضع تأمل وتشكيك.

 

الثَّاني: إن الأخذ بقول الفلكي هو اعتمادٌ على أهل الخبرة، والرجوع إلى أهل الخبرة موافق للأصل الأوليِّ، على حدّ تعبير بعض العلماء(17)، وقد جرت السيرة العقلائية والمتشرعيَّة عليه.

 

ويمكن الاعتراض على التقريب الثاني بعدَّة اعتراضات، نذكر اثنين منها:

 

1- إنَّ سيرة العقلاء جرت على الرجوع إلى أهل الخبرة في القضايا الحدسية دون الحسيّة، كما في مسألة رؤية الهلال.

 

ويردّه: أنّ السيرة جارية على الرجوع إلى ذوي الخبرة والاختصاص، سواء كان اختصاصهم يبتني على الحدس المحض، أو على الحدس المعتمد على مقدمات حسيّة، شرط أن لا تكون حسيتها باديةً لنوع الإنسان من جميع الجهات، ولذا لا يحرز جريان السيرة على الاعتناء بإخبار الثقة من أهل الخبرة في ما يمكن لعامة الناس معرفته عن حس، وإنما يؤخذ بقوله حينئذٍ من باب الشهادة. لكن مسألتنا ليست من القضايا الحسية المحضة، فإن مسألة خروج القمر من المحاق، أو وصوله إلى درجة يمكن معها الرؤية، مما لا يتيسر لعامة الناس معرفته والاطلاع عليه، لأنه يخضع لعدة اعتبارات لا يمكن لغير ذوي الخبرة والاختصاص معرفتها والإحاطة بها.

 

2- إن شهادة الفلكي إنْ أفادت اليقين أو الاطمئنان، فستكون حجَّة من باب حجية القطع والاطمئنان، وهو التقريب الأول، وإلا إن لم تفد سوى الظن فلن تكون لها قيمة، لعدم حجيّة الظن عموماً، كما أنه لا دليل على حجية قول أهل الخبرة إن كان لا يفيد سوى الظن، لعدم إحراز انعقاد السيرة على الأخذ به حينئذٍ، هذا مضافاً إلى وجود نهي خاص في المقام عن الأخذ بما هو ظني، وهو قول أبي جعفر(ع) في صحيحة محمد بن مسلم: "وليس بالرأي ولا بالتظني، ولكن بالرؤية"(18).

 

وهذا الاعتراض ـ إن تمّ ـ فهو سيَّال ويجري في كل الموارد التي يتمسك فيها بقول أهل الخبرة، ولا رادّ له إلا أن يُلتزم بجريان السيرة على الأخذ بقوله وإن كان ظنياً. وكيف كان، فالتقريب الأول تامّ ـ لكنه يحتاج ـ وكذا التقريب الثاني ـ إلى إلغاء خصوصية الرؤية.

 

المرحلة الثانية:

 

ونتحدّث فيها عن وجود المانع من الأخذ بقول الفلكي، والمانع المتصور إما دليل خاص، أو عام، أو تمامية القول بموضوعية الرؤية.

 

أمّا الدليل الخاص فهو

 

الراويات الناهية عن الأخذ بقول المنجم والحاسب، فقد يقال: إنها شاملة، أو هي ناظرة إلى قول الفلكي، فتكون أقوالهم غير معتبرة شرعاً، لا لعدم المقتضى، بل لوجود المانع. ومن هذه الراويات، صحيحة محمد بن عيسى قال، كتب إليه أبو عمر: أخبرني يا مولاي، أنه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان فلا نراه، ونرى السماء وليست فيها علّة، ويفطر الناس ونفطر معهم، ويقول قوم من الحسّاب قبلنا: إنه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر وأفريقية والأندلس، هل يجوز ـ يا مولاي ـ ما قال الحسّاب في هذا الباب، حتى يختلف الفرض على أهل الأمصار، فيكون صومهم خلاف صومنا، وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقّع: "لا تصومنّ الشك، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته"(19).

 

قيل: والمقصود بالحسّاب عند الفقهاء، علماء النجوم المصطلح عليهم الآن بالفلكيين(20).

 

ولكن هذا الاستدلال واهٍ جداً، وذلك:

 

أوَّلاًإنَّ المنجِّم الذي اعتبرته الروايات كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار(21)، والذي نص الفقهاء على أنه لا عبرة بقوله في إثبات الهلال(22)، لا يراد به ما يشمل العالم الفلكي بالمصطلح الحديث، لما عرفته في المقدمات من وجود علمين متمايزين: أحدهما علم الفلك، والآخر علم التنجيم، ولا ينبغي الخلط بينهما. وعليه، فإنّ الروايات الناهية عن التنجيم، لا تشمل علم الهيئة والفلك، بل هي ناظرة إلى ما كان يتعاطاه الناس من التنجيم القائم على أن للنجوم ومواقعها تأثيراً في حوادث العالم، وفي مصير الإنسان وسعادته وشقائه، أو نجاحه أو فشله، أو انتصاره في الحروب أو هزيمته، وأنه من خلال النظر في النجوم، يمكن معرفة مصير الناس ومجريات الأحداث المستقبلية، والتي ليس منها قطعاً علم الفلك، وقد تنبّه غير واحد من الفقهاء إلى ضرورة عدم الخلط بين العلمين. يقول الفقيه الكبير السيِّد الخوئي(رحمه الله): "لا إشكال في جواز النظر إلى أوضاع الكواكب وسيرها...كما حقق في الهيئة القديمة، والإخبار عن الخسوف والكسوف، وعن ممازجات الكواكب ومقارناتها واختفائها واحتراقها، ونحوها من الأمور الواضحة المقرَّرة في علم معرفة التقويم وعلم الهيئة، فإنّ الإخبار عنها... مبنيّ على التجربة والامتحان والحساب الصحيح الذي لا يتخلَّف غالباً، ومن الواضح جداً أنّه لا يرتبط شيء منها بما نحن فيه، بل هي خارجة عن علم النجوم"(23).

 

هذا وتجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد نصّ في ما نحن فيه بعنوان "المنجم" ينهى عن التعويل على قول المنجمين في خصوص مسألة الهلال، بل كل ما هناك، نصوص عامة تنهى عن تصديق المنجم بقول مطلق، مثل: ما روي عن النبي(ص): "من صدّق منجِّماً أو كاهناً، كافر بما أنزل على محمد"(24)، وقد عرفت عدم شمول المنجم في الروايات للفلكي.

 

 نعم، النص الموجود في المقام، هو صحيحة محمد بن عيسى التي عبّرت بـ"الحساب". فما المُراد بالحاسب، وهل يشمل الفلكي؟

 

ذكر بعض الفقهاء، أنّ الحاسب هو الفلكي(25)، لكن الذي يُستفاد من بعض الروايات، أن الحاسب هو بمعنى المنجِّم الذي يرى وجه ارتباطٍ بين حركة النجوم، وسعادة الناس أو حزنهم أو هزيمتهم... ففي رواية هشام الخفاف قال: "قال لي أبو عبد الله(ع): كيف بصرك النجوم؟ قال: قلت: ما خلّفت بالعراق أبصر بالنجوم مني، قال: كيف دوران الفلك عندكم؟ـ إلى أن قال: ـ ما بال العسكرين يلتقيان في هذا حاسب وفي هذا حاسب، فيحسب هذا لصاحبه بالظفر، ويحسب هذا لصاحبه بالظفر، ثم يلتقيان فيهزم أحدهما الآخر، فأين كانت النجوم؟! قال: قلت: لا والله لا أعلم ذلك، قال، فقال: صدقت، إنّ أصل الحساب حق، ولكن لا يعلم ذلك إلا من علم مواليد الخلق"(26). إن هذه الرواية تدل على أن الحاسب هو بمعنى المنجم، وهناك روايات (27) أخرى تشهد بذلك أيضاً.

 

وعليه، فالتسوية بين الحاسب والفلكي غير دقيقة، بل من المظنون قوياً، أن يكون الحاسب، على الأقل في تلك المرحلة الزمنية، بمعنى المنجِّم، وقد عرفت أن الفرق بين المنجِّم والفلكي شاسع وواضح جداً حتى عند الفقهاء، فضلاً عن أهل الاختصاص. يقول الدكتور يوسف مروَّة: "إن ثمة خلطاً بين مهنة عالم الفلك ومهنة المنجِّم؛ المنجم ليس عالماً فلكياً، وعالم الفلك بالتالي ليس منجِّماً. عقدت عدة ندوات في جامعات غربية، واتخذت هذه التهمة وهذا الخلط نقطة ضعف عند المسلمين، فنحن في القرن العشرين، وعلى أوائل الألفية الثالثة، وما يزال المسلمون يخلطون بين علم الفلك وعلم التنجيم، ففي إحدى الندوات، وقف أحد علماء الفلك الكبار وسأل الحاضرين: من منكم منجم؟ فلم يجبه أحد، ثم سأل ثانيةً: من منكم عالم فلكي؟ فرفع الجميع يده، فسئل: لِمَ هذا السؤال؟ فأجاب: لأني قرأت أنَّ مؤسسةً إسلاميةً في لبنان ما زالت تنعت علماء الفلك بالمنجّمين!"(28).

 

ثانياًلو سلّمنا جدلاً بأن الحاسب هو الفلكي، مع ذلك، فإنّ الراويات الناهية عن تصديق الحسّاب، لا تشمل فلكيي اليوم الذين وصلوا في بحوثهم العلمية وملاحظاتهم الرصدية إلى درجة عالية من الدقة صارت نتيجة أبحاثهم معها قطعيةً، وإنما هي ـ أي الروايات الناهية ـ ناظرة إلى كلام الحُسَّاب أو الفلكيين في الزمن الغابر، حيث لم تكن معطياتهم مفيدةً لليقين، بل كانت ظنيّةً، ويشهد لذلك، الصحيحة المتقدمة التي سئل فيها الإمام(ع) عن قول الحسّاب؟ قوقّع: "لا تصومنّ الشك، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته". وبصرف النظر عن الصحيحة، فلا يمكن أن تكون روايات المنع شاملةً لصورة حصول القطع من قول الفلكي، لأنه لا يمكن للشارع أو غيره سلب الحجية عن القطع، فتأمل.

 

هذا كله فيما يرتبط بوجود دليل خاص ينهى عن الأخذ بقول الفلكي، وقد عرفت ما فيه.

 

وأما الدليل العام

 

فإننا لا نملك دليلاً كذلك، إلاّ عمومات النهي عن اتباع الظن، ولكنك عرفت أنه لا يصح التمسك بتلك العمومات في المقام، لأن المعطيات الفلكية ليست ظنيةً بل يقينيةً.

 

لم يبقَ ما يمنع من الأخذ بقول الفلكي، إلاّ تمامية القول بموضوعية الرؤية، وأن الشهر لا يبدأ إلا عندما يُرى الهلال رؤيةً حسيّةً فعليّةً، على نحوٍ تكون الرؤية قيداً في موضوع الحكم، كما هو ظاهر غير واحد من الفقهاء كما تقدّم، فلو تمّ هذا القول، فستكون النتيجة رفض الاعتماد على أقوال الفلكيين، إلا إذا شهدوا بالرؤية الحسيّة، وتوافرت فيهم شرائط قبول الشهادة. والسؤال: ما هو دليل هذا القول؟

 

الرؤية بين الموضوعية والطريقية:

 

إن أهم ما يمكن الاستدلال به لهذا القول، هو صراحة الروايات الكثيرة ـ منها الصحيح ـ الواردة عن النبي(ص) وأهل بيته(ع)، بلسان: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، وبعضها واردة على نحو الحصر، كما في رواية الفضيل بن عثمان عن الصادق(ع): "ليس على أهل القبلة إلا الرؤية، وليس على المسلمين إلا الرؤية"(29)، فهذه الرواية وغيرها، تفيد أن المدار هو على الرؤية، وهي ظاهرة في الرؤية الحسيّة الفعلية لا التقديرية، كما هو ظاهر كل القيود المأخوذة في لسان الروايات.

 

ولكن هذا الاستدلال لا يستقيم:

 

أوّلاً: إن عنوان الرؤية في نظر أهل العرف ليس من العناوين التي لها دخل في  موضوع الصوم، بل هو مجرد طريق لاكتشافه. وبعبارة أخرى: ليست الرؤية هدفاً وغايةً، بل هي مجرد وسيلة، تماماً كما هو الحال في عنوان التبيّن الوارد في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ}[البقرة:187]، فإن العرف لا يفهم من التبيّن إلا أنه وسيلة لمعرفة طلوع الفجر، لا أنه جزء من شخصية الفجر، ولذا لو علم بطلوع الفجر من غير تبيّن، أو كان هناك مانع من رؤيته، كالغيم أو شدّة الأنوار المضيئة، ففي مثل ذلك، يجب الإمساك عن الطعام بلا ريب. أجل، هناك رأي فقهي ذهب إلى تأخر الفجر في الليالي المقمرة عنه في سائر الليالي، استناداً منه إلى موضوعية التبيّن، ولكنه ضعيف ومجانب للصواب، كما حقِّق في محله.

 

وإن التأمل في الموارد التي ورد فيها عنوان الرؤية أو نظائره، مُنَاطاً به بعض الأحكام الشرعية، يؤيد ما قلناه من طريقية الرؤية. وإليك بعض الأمثلة على ذلك:

 

1- ورد في الأخبار المستفيضة، النهي عن النظر إلى جسد الأجنبية، منها: رواية علي بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد الله(ع) قال: سمعته يقول: "النظرة سهم من سهام إبليس مسموم"(30). فإن العرف لا يفهم خصوصيةً للنظر بالعين المجرَّدة، وإلاّ لكان لازمه جواز النظر إلى جسد المرأة المؤمنة من خلال المناظر الليلية أو المقرّبة والمكبرة، مع أنه يبعد التزام الفقهاء بذلك

 

2- ورد في الروايات، أنَّ المكلَّف إذا كان في الطواف ورأى في ثوبه دماً، فإن عليه أن يخرج من الطواف فيغسله، ثم يعود ويُواصل طوافه من حيث قطعه، ففي رواية يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن رجل يرى في ثوبه الدم وهو في الطواف؟ قال: "ينظر الموضع الذي رأى فيه الدم فيعرفه، ثم يخرج ويغسله، ثم يعود فيتم طوافه"(31). ومن الواضح أن رؤية الدم لا موضوعية لها في هذا الحكم، فلو كان الطائف أعمى، أو كان يطوف بليل، وعلم أن السائل الذي على ثوب الإحرام هو دم، فإن عليه أن يخرج من طوافه لتطهير ثوبه، ثم يعود ويتم طوافه.

 

3- وفي قضية إنكار المنكر، ورد عنه(ص): "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"(32). فهل يحتمل فقيه من الفقهاء، أن إنكار المنكر واجب على خصوص البصير الذي يرى المنكر رؤيةً حسيّةً، أما الأعمى، أو الذي لا يرى المنكر بعينه، لسببٍ أو لآخر، مع علمه بوقوعه، فلا يجب عليه النهي عنه؟!

 

 

ومن الموارد التي نلحظ عدم خصوصية الرؤية فيها: قضية خفاء الجدران الذي هو شرط الابتداء بقصر الصلاة في السفر، فإن خفاء الجدران وتواريها عن الأنظار، لا يُراد به خصوص الحسي منه، بل يكفي التقديري، كما ذكر ذلك غير واحد من الفقهاء.

إن هذه الأمثلة وغيرها، تؤشر إلى ما ذكرناه من طريقية عنوان الرؤية بنظر أهل العرف.

 

وقد أصرَّ السيِّد الخوئي(قده) في أبحاثه العلميّة على الطريقية، يقول في بعض رسائله إلى السيِّد الطهراني(33): "ثم إنكم إمّا تعتبرون الرؤية الخارجية بالفعل، أو تكتفون بالرؤية التقديرية؟ فإن التُزِم بالأوَّل، لزم القول بعدم دخول الشهر، ولو علم بوجود الهلال في الأفق بنحوٍ قابلٍ للرؤية، ولكن قد حجبه غيمٌ مكثَّفٌ عن تحقّق الرؤية خارجاً، كما لو علم بذلك نتيجة رصده في السماء، أو تشخيصه بالأجهزة الحديثة التي تخرق حجاب الغيم، أو افترضنا إخبار معصوم بذلك، والالتزام بهذا بعيد".

 

 وفي رسالة أخرى(34)، نجده قد استدلّ للطريقية بأربعة شواهد، وهي

 

1- قيام البيّنة مقام الرؤية، فلو كان للرؤية موضوعية، لما استقام قيام البيِّنة مقامها.

2- عدّ ثلاثين يوماً إذا لم تتيسَّر الرؤية والبيِّنة.

3- أنه يجب على المكلَّف صيام يوم الشك إذا أفطره، ثم تبيّن له بعد ذلك أنه من شهر رمضان.

4- أنه إذا صام يوم الشك بنيَّة شعبان، ثم تبيّن أنه كان من رمضان، فيجزيه عن رمضان، مع أنه لم يرَ الهلال، والإجزاء فرع ثبوت التكليف.

 

وهذه الشواهد أو بعضها على الأقل صحيحة، ولا نرى ضرورةً للخوض في بعض النقاشات التي قد ترد عليها، لأن فيما ذكرناه من شواهد على الطريقية كفاية

 

ثانياً: إنّ الحصر الذي يظهر من بعض الروايات، هو حصر إضافي وليس حقيقياً، ويشهد له ما أشرنا إليه من وجود طرق أخرى لثبوت الهلال غير الرؤية، منها: عدّ ثلاثين يوماً، ومنها: التطوّق على رأي بعض الفقهاء، فإنه دليل على أن الهلال هو لليلتين، إلى غير ذلك.

 

 ثالثاً: إنّ الظاهر من سياق الروايات التي نصّت على الرؤية، أن إناطة الحكم بخصوص الرؤية هو باعتبارها الوسيلة الأكثر إصابةً للواقع والأقل خطأً، بينما الوسائل الأخرى المتوفرة آنذاك لم تكن سوى وسائل ظنية كثيرة الخطأ. ومن القرائن التي تشهد بذلك، قوله(ع) في بعض الروايات: "صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظن"(35)، وقوله(ع) في بعضها الآخر: "اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية"(36). وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع): "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتم الهلال فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني، ولكن بالرؤية"(37)

 

إن الذي يظهر من هذه الروايات، أنَّ التركيز على الرؤية كان في قبال الوسائل الظنية التي كانت شائعةً آنذاك.

 

رابعاً: إن الرؤية الواردة في النصوص، وإن كان من البعيد حملها على ما قد يسمى بالرؤية العقلية أو القلبية المستندة إلى الحسابات أو المعادلات العلمية البعيدة عن الحسّ، لأن ذلك خلاف ظاهر النصوص، إلا أنَّ حمل الرؤية على خصوص الرؤية بالعين المجردة غير دقيق، لأن الرؤية بالعين المسلَّحة هي في نظر العرف رؤية حسية أيضاً، ودعوى انصراف الروايات عن مثل هذه الرؤية مرفوضة، وإلاّ لصحّت دعوى انصرافها عن رؤية ذي البصر الحادّ للقمر، بحيث لم يره غيره، أفهل يلتزم فقهياً بأنه إذا شهد ذو البصر الحاد بالرؤية، وتوافرت كل شرائط الشهادة فيه، فلا تقبل شهادته؟! إن هذا في غاية البعد.

 

إلى هنا، يكون قد اتضح لنا أن القول الثالث الذي يجمد على الرؤية الفعلية فحسب، لا يستقيم أمام النقد العلمي، وبذلك يُفتَح الباب واسعاً أمام إمكانية الأخذ بقول الفلكي، وهو المقام الثاني من البحث

 

المقام الثاني: (التولّد أو قابلية الرؤية):

 

ولكن هل نأخذ بقول الفلكي لو شهد بمجرَّد الولادة الفلكية، وإن لم يكن الهلال قابلاً للرؤية، كما هو القول الأوَّل، أو لا بدَّ من وصوله وبلوغه مرحلة  قابلية الرؤية، كما هو القول الثاني؟

 

ربما يُرَجَّح القول الأوَّل، ويستدلّ له بأنَّ "موضوع الحكم الشرعي في الصيام هو شهر رمضان، كما يشهد له قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:185]. وفي ضوء ذلك، فإن مسألة الصيام والإفطار تتحدَّد تبعاً لتحديد بداية الشهر ونهايته، فإذا عرفنا أنَّ الشَّهر ظاهرة كونية تتحرَّك في نطاق دخول القمر في المحاق، وذلك ببلوغ المنطقة التي تحجبه فيها أشعة الشَّمس، وفي خروجه من المحاق الذي يتمثل في ابتعاده عن تلك المنطقة، ولا دخل للرؤية وعدمها في طبيعة هذه الظاهرة، فإنّ الأمر يقتضي أن تكون الولادة الفلكية هي الأساس في تحقق الشهر".

 

هذا ما كان يراه السيِّد فضل الله(رض)، في رأيه القديم.

 

اعتراض العلايلي ورد السيِّد:

 

وقد اعترض المرحوم الشيخ عبد الله العلايلي على هذا الاستدلال بالقول: "إنّه اتخذ نقطة ارتكاز لا تصلح أن تكون مناطاً للحكم، لأن المناط في الشريعة ليس القمر بعينه كموجود طبيعي، بل الرؤية التي هي عرض منفك، والمداخلة بينهما ليست مداخلةً بين الشيء ونظيره، بل عطف متفارقين بينهما ما بين الجوهر والعرض. وبيانه: أن متعلق الحكم ليس القمر من حيث كونه ظاهرةً كونيةً، بل القمر من حيث إنه مرئي للمكلَّف، وجعلهما سيّين ـ بحسب تعبير الأصوليين ـ خلف" (38).

 

وقد رد سماحة السيِّد ـ آنذاك ـ على ملاحظة الشيخ العلايلي بما حاصله: "إننا لم نتحدث عن القمر من حيث كونه ظاهرةً كونيةً، بل عن الشهر الذي هو موضوع الحكم الشرعي، فإنّ الآية الشريفة:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:185]، جعلت متعلّق الصَّوم هو الشهر المعين وليس القمر المرئي. ولهذا، لا بدَّ من اعتبار عنوان الشهر أساساً للصوم، والشهر ظاهرة كونية في حساب الزمن، تخضع لحالات القمر عند اقترانه مع الشمس أو انفصاله عنها. وعليه، فلا بدّ من العمل على اكتشاف بدء الشهر بمختلف الوسائل اليقينية، كعلم الفلك، بعد عدم وجود دليل يحصر وسيلة اكتشافه بوسيلة معيّنة، لأن النّص النبوي: "صوموا لرؤيته..."، لا يُستفاد منه أن الرؤية دخيلة في تحقق الموضوع، وإنما هي مجرد وسيلة لتحديده"(39).

 

هذا، ولكن السيِّد(رض) قد استقرَّ رأيه أخيراً على اختيار القول الثاني، وهو "إمكانية الرؤية"، ورفض القول الأوَّل، وهو الاكتفاء بمجرد الولادة الفلكية، وهذا هو الأقرب إلى الصواب في رأينا، لعدم تمامية أدلة القول بكفاية التولد، بل ولقيام الدليل على عدم كفايته، كما سنلاحظ.

 

 أدلَّة القول بالتولَّد:

 

 وما يمكن أن يستدلّ به للقول بكفاية الولادة الفلكية، هو أحد وجوه:

 

الأوَّلالآية الكريمة: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُبالتقريب المتقدم.

 

 ويلاحظ على ذلك:

 

1- إنّ هذه الآية الكريمة ليست في صدد بيان كيفية تحقق الشهر وشهوده، بل هي في صدد بيان حكم من شهد الشهر ومن لم يشهده؛ فالأول، أي من شهده، مكلَّف بالصيام، والثاني، أي من لم يشهده أو كان مريضاً، فهو مكلَّف بالقضاء. أما كيف يتحقَّق شهود الشهر؛ أيتحقَّق بإمكانية الرؤية أو بمجرد الولادة الفلكية؟ فهذا ما سكتت عنه الآية، فلا بدّ من الرجوع فيه إلى الأدلَّة الأخرى لمعرفته.

 

2- إن شهود الشهر، إما أن يُراد به مشاهدته بمعنى رؤية الهلال، فتكون الآية دالةً على اعتبار الرؤية، وإما أن يُراد به شهوده وحضوره، أي الحضور في البلد(40)، كما يشهد له ـ مضافاً إلى أنَّ الأوَّل خلاف الظاهر جداً ـ جعله مقابلاً للسفر في الآية، ويشهد له أيضاً ما روي عن الإمام الصادق(ع) عندما سئل عن الآية ـ }فمن شهد منكم الشهر{ ـ فقال(ع): "ما أبينها، من شهد فليصمه، ومن سافر فلا يصمه"(41).

 

 وعلى التقديرين، لن يُستفاد من الآية أنّ موضوع الصوم هو الشهر، كظاهرة كونية، أمّا على الأوَّل فواضح، وأما على الثاني، فلأنها تكون في صدد بيان حكم الحاضر والمسافر في الشهر، لا بصدد بيان كيفية تحقق الشهر وثبوته بدواً وانتهاءً.

 

الوجه الثاني: قوله ت