ما تقدّم - في بحثنا فقه العلاقة مع الآخر بين التعايش والانغلاق - كان حديثاً عن الضوابط الإسلامية التي تُسهم في حماية المجتمع الإنساني المتنوّع دينيّاً وثقافيّاً، وما نرومه الآن هو الإضاءة على الضوابط التي تحمي المجتمع الإسلامي المتنوّع مذهبيّاً من مخاطر التصادم والتناحر، وذلك لأنّه منذ أمدٍ بعيد والأمّة الإسلامية تعاني من تصدّع داخلي يفلُّ القوى، ويفكّك العرى، ويُسهم في تقطيع الأوصال وتشتيت الأولويات والأهداف، وذروة الخطر في ذلك أنّ الأمة أُصيبت بضعف الإحساس بهويّتها وانتمائها ووحدة همومها وقضاياها، مع ارتفاع في وتيرة الحسّ المذهبي أو الانتماء إلى الدولة القُطْرِيّة، وما رافق ذلك ويرافقه من الانشغال بصغائر الأمور وهوامش الهموم على حساب القضايا المصيرية للأُمة.

 

وممّا لا ريب فيه، أنّ أسباب هذا التفكّك عديدة، منها ما هو داخلي، ومنها ما هو خارجي، وربّما ساهم علم الكلام الإسلامي بوضعيّته التاريخية والراهنة المبنيّة على الشقاق ومبدأ تسجيل النقاط، والمحكومة لمنطق الفرقة الناجية في التأسيس لفقه التناحر والتدابر والتنظير لثقافة إنكار الآخر وإلغائه، وهكذا ضعفت المناعة الداخلية في الأُمة وغدت في معرض السقوط أمام أدنى اهتزاز خارجي.

 

فهل من سبيل للخروج من هذا النفق المظلم والواقع المؤلم؟

 

والجواب- رغم الصعوبات- بالإيجاب، فإنّنا نملك من الضوابط الدينية والقواعد الإسلامية ما يكفل ترميم التصدّع المذكور ويعيد جَسْرَ العلاقة المفتقدة، شرط أن يتم تفعيل هذه الضوابط وتلك القواعد وتربية الأُمة عليها، كما أنّ لدينا منطقاً فقهيّاً تبنّاه بعض الفقهاء الكبار الذين يمكن التعويل على فتاواهم في سبيل إعادة إطلاق فقه الوفاق بدلاً عن فقه الشقاق واستباحة الآخر، وسنعرض في الفصل الخامس لفتاوى بعض كبار الفقهاء ممّن أكّدوا على أنّ الأخلاق الإسلامية غير قابلة للتجزئة والتزموا بأنَّ حرمة الغيبة والسبّ والنميمة واللعن ...عامة وشاملة لكلّ أبناء المجتمع الإسلامي على اختلاف مذاهبهم بل ربّما قيل بشموليّتها لكلّ أفراد المجتمع الإنساني على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم.

 

 

وفيما يلي نشير إلى بعض الضوابط الإسلامية التي من شأنها أن تُسهم في حال تثقيف الأمة عليها في حماية المجتمع الإسلامي من التفكّك الداخلي وفي حقن دماء المسلمين التي تُسفَك باسم الإسلام وتحت رايته، والإسلام منها بريء براءة الذئب من دم يوسف:

 

 

أولاً: الأخوّة الإيمانية

 

إنّ القاعدة الأساس التي يبني الإسلام العلاقة الداخلية بين أبنائه على ضوئها، بما يكفل وحدتهم وتكاتفهم ويضمن تحقيق الأمن الاجتماعي وإزالة كل عوامل التوتر، هي قاعدة الأخوّة الإيمانية بما تعنيه من أن المسلم ليس مجرّد صديق أو رفيق أو نظير للمسلم الآخر بل هو قبل ذلك أخوه في الدين، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 10]، والأخوّة ليست مجرّد شعار يُرفَع أو نشيد يُتلى، إنّها نظام متكامل يتألّف من مجموعة من الحقوق والواجبات، لا بدّ من ترجمتها عمليّاً من خلال التكافل والتعاون بين الإخوة، والحماية والنصرة لبعضهم البعض ودفع الأذى وكفّ اللسان عن الآخر، إلى غير ذلك من الحقوق والواجبات التي أكّدت عليها النصوص القرآنية والنبويّة.

 

ورغم أنّ عنوان الأخوّة يبدو واضحاً غير ملتبَس من الناحية المفهومية، لكنّه من الناحية المصداقية تعرّض لعملية مسخ وتقزيم، وغدت كلّ طائفة ترى الأخوّة الإيمانية بكلّ مستلزماتها حكراً على أتباعها ووقفاً على جماعتها، فالسُّنّي- مثلاً- يرى أنّ لا أخوّة بينه وبين الشيعي، والشيعيّ كذلك، وانطلاقاً من ذلك فلا يرى أحدهما حقّاً للآخر عليه ولا يرعى له حرمة، ويغدو مفاد قوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: 12] الوارد في النهي عن الغيبة مساوياً- لدى السنّة- لقولك: "أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه السنّي!" ولدى الشيعة مساوياً لقولك: "أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه الشيعي!" ضاربين عرض الجدار كلَّ النصوص الإسلامية التي تؤكّد أنّ الإسلام يظلّل المجتمع وأنّ الإيمان أو الأخوّة في كلام الله ورسوله لا يُراد بها معانيها الطائفية الضيّقة.

 

ثانياً: قاعدة الصحة[1]

والضابط الثاني هو ما يُصطلح عليه بـ"أصالة الصحة"، وقد تناولها الفقهاء بالبحث من الزاوية الفقهية، وما نرمي إليه هنا استعراض بعض مجالات القاعدة مما له علاقة بتحصين المجتمع الإسلامي، ورفع كل عناصر التوتر من داخله.

 

 

الحَمْلُ على الأحسن

 

المجال الأول: أو البُعد الأول لهذه القاعدة: هو البُعد الأخلاقي ويُراد بالصحة هنا حُسْن الظنّ بالآخرين واستبعاد نيّة السوء في تفسير أقوالهم وأفعالهم، فكلّ عمل يقوم به الغير يحمل وجهَيْن: أحدهما يمثّل القبح والآخر يمثّل الحُسن، فيحمل فعله على الوجه الحسن ولو كان احتماله ضعيفاً ويستبعد احتمال السوء ولو كان قويّاً، وهذا ما يُستفاد من دعوة القرآن الكريم إلى اجتناب الظنّ السيّىء بالآخر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات: 12]، وهذا ما يرمي إليه وبوضوح الحديث المرويّ عن رسول الله (ص):"اطلب لأخيك عذراً فإن لم تجد له عذراً فالتمس له عذراً"، وكذلك الحديث المرويّ عن أمير المؤمنين(ع): "ضَعْ أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً"[2]، وعليه فلو رأينا شخصاً مسلماً يشرب مائعاً مردّداً بين الخمر والماء، فلا يجوز لنا أن نفترض الأسوأ وهو شرب الخمر ونرتّب الآثار عليه.

إنّ حَمْل الآخر المسلم على الأحسن لا يُراد به بناء الشخصية الساذجة التي تفقد المؤمن فطنته وكياسته، بل يهدف إلى إزالة عوامل التوتّر الداخلي وخلق مناخات الثقة بين المؤمنين، لأنَّ سوء الظن إذا ما فتك بالمجتمع، فإنّه يفكّك عرى الأخوّة ويُضعف المناعة الداخلية، بما يهدّد بانهيار المجتمع برمّته.

وهذا البُعد الأخلاقي للقاعدة إنّما يرمي- كما عرفت- إلى استبعاد ظنّ السوء، ولكنّه لا يرمي إلى ترتيب الآثار الشرعية للصحة، فلو أن شخصاً مرّ بجمع من الناس وتلفظ بكلام دار أمره بين أن يكون سباباً أو سلاماً، فالحمل على الأحسن يقتضي استبعاد احتمال السباب دون أن يعني ذلك الحكم بكون الصادر منه هو السلام، وبالتالي يجب عليهم ردّ السلام أو التحية بمثلها، وإن كان ذلك مستحسناً ويعكس خلقاً متسامياً.

 

وهذه القاعدة كما ترمي إلى خلق الثقة بين أبناء المجتمع والحفاظ على تماسكهم فإنّها تهدف إلى صون حرمة الآخر والابتعاد عن الحديث السلبيّ عنه ورميه بالفسق والعصيان لمجرّد تهم وظنون لا يملك مطلِقُها دليلاً على إثباتها.

 

ومن أهداف هذه القاعدة وإيحاءاتها أيضاً أنها تدعونا إلى أن ننظر دوماً إلى الجانب المشرق والمضيء في شخصية الآخر ونكتشف العناصر الإيجابية في حياة الآخرين بدل أن نفتّش عن المعائب ونحدّق في النقاط السلبيّة، ونعمل على تضخيمها، وهذا ما أكّد عليه السيد المسيح (ع) فيما رُوِي عنه، أنّه مرّ والحواريّون على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال (ع): "ما أشدّ بياض أسنانه"[3].

 

 

الصحة المعاملاتية

المجال الثاني لقاعدة الصحة: هو مجال المعاملات والعقود كالبيع والإجارة، وكذلك الزواج والطلاق وغير ذلك، فلو شُكَّ في صحّة زواج فلان واستجماعه (أي الزواج) للشرائط، يُبنى على الصحة ويتمّ ترتيب آثارها إلا إذا ثبت الفساد.. ولو احتمل أنّ شراء فلان لبيته أو مزرعته كان في إطار عقد فاسد يُبنى على الصحة أيضاً ويُحكم تالياً بجواز الشراء منه وهكذا.. والمدرك الأساسي لقاعدة الصحة في بُعدها المعاملاتي هو سيرة العقلاء على اختلاف مِللهم ونحلهم، بل لو لم تكن هذه القاعدة معتبرة لأوجب ذلك اختلال النظام.

 

والفارق بين الصحة في المجال الأخلاقي والمجال المعاملاتي، أنّ الصحيح في المجال الأول يقع في مقابل القبيح، بينما في المجال الثاني يقع الصحيح في مقابل الفاسد.

 

 

الصحة في الاعتقاد

 

المجال الثالث: هو المجال الاعتقادي، فهل يمكن الحمل على الصحة في الاعتقادات؟ فلو شك أنّ عقيدة فلان ممّن هو على ظاهر الإسلام صحيحة أم فاسدة؟ أو أنّه مؤمنٌ فعلاً بالله وأن محمَّداً رسوله وأنّ العباد يُبعثون ويُحشرون أم ليس مؤمناً بذلك كلّه أو بعضه فماذا يحكم عليه؟

ولا بدّ من إلفات النظر إلى أنّ الحكم بفساد العقيدة له مخاطر جمّة ومضاعفات خطيرة، لأنَّ هذا الحكم قد يستتبع حُكماً بارتداده وإهدار دمه أو حُكْماً بضلاله وانحرافه وهو ما قد يؤدّي إلى محاصرته وعزله اجتماعياً، كما أنّ للحكم بفساد العقيدة آثاراً شرعيّة كثيرة سواء على مستوى الأحوال الشخصية كالزواج أو الميراث أو على مستوى الأهلية القانونية، وهي التي تسمح بتولّيه بعض المناصب والمهام كالإمامة والشهادة ونحو ذلك.

والظاهر أنّه لا مجال إلا للحمل على الصحّة في هذه الحالة ما دام الشخص على ظاهر الإسلام ولم يظهر منه ما ينافي ذلك قولاً أو فعلاً. وقد جرت سيرة المسلمين على تصحيح اعتقاد من يدعي الإسلام حتى يعلم الخلاف، ولا يطالب ببرهان يثبت إسلامه[4]، وقد ذهب بعض الأعلام إلى جواز الحكم "بإسلام كلّ مَن شكّ في إسلامه وإن لم يدّع الإسلام إذا كان في دار الإيمان، والوجه في ذلك: استقرار سيرة المسلمين على إجراء أحكام الإسلام على كلّ مَنْ كان في بلاد الإسلام من دون فحص عن مذهبه حتى يقوم دليل على فساده"[5]، والمرجَّح أن يكون نظر هذا العالم إلى صورة كثرة المسلمين من الناحية العددية في بلد ما، وأما البلاد المختلطة إلى حدِّ المناصفة أو ما هو قريب من ذلك فيشكل الأمر في البناء على إسلام مَن يُشَكُّ في إسلامه فيها، والسيرة المُشار إليها لم تجرِ على ذلك في مثلها.

 

وعلى ضوء ما تقدم، فلو أنّ شخصاً ذبح حيواناً مأكول اللحم وشكّينا في حلية الأكل بسبب شكِّنا في صحة اعتقاد الذابح، فعلينا الحكم بحلية الأكل ما دام الذابح على ظاهر الإسلام أو ادّعى ذلك ويحمل اعتقاده على الصحة ولا يلزم الفحص عن تفاصيل معتقده أو اختباره بالسؤال ونحوه.

 

 

محاكمة العقائد

 

وممّا يُؤسَف له أنّ بعض الناس من أنصاف المتفقّهين ينصِّبون أنفسهم مفتّشين عن عقائد الناس ويصدرون الأحكام يميناً وشمالاً، تكفيراً وتضليلاً، أو تفسيقاً وتبديعاً، دون تثبّت أو تورّع، مع أنَّ تكفير المسلم أو تضليله أمر عظيم عند الله ولا يجوز اقتحام هذه العقبة إلا بحجّةٍ دامغة تقطع الشكّ باليقين، فلو أنَّ كاتباً أو محاضراً طرح بعض الأفكار التي قد يتراءى منها التشكيك في بعض المسلمات العقائدية لكن كان لها وجه حسن ومحمل صحيح لا ينافي الاعتقاد فلا يسوغ في هذه الحالة البناء على الاحتمال الفاسد والحكم على أساسه، فإنّ اليقين لا يزال إلا بيقين مثله، والحدود تدرأ بالشبهات، وصريح القرآن يقول: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً}[النساء:94], في تأكيد بيّن على مبدأ الأخذ بالظاهر والابتعاد عن محاكمة النوايا التي لا يعلَمُها إلاّ الله العالِم بالسرائر.

 

ولنعم ما قاله الملا علي القاري مما تقدم نقله سابقاً: "ذكروا أنّ المسألة المتعلّقة بالكفر إذا كان لها تسعة وتسعون احتمالاً للكفر واحتمال واحد في نفيه، فالأولى للمفتي والقاضي أن يعمل بالاحتمال النافي، لأنّ الخطأ في إبقاء ألف كافر أهون من الخطأ في إفناء مسلم واحد".

 

 

ثالثاً: حُسن الظاهر دليل العدالة

 

وقاعدة أخرى رديفة لأصالة الصحة يركّز عليها الإسلام، كونها تُسهم في خلق مناخات الثقة بين أبناء المجتمع الإسلامي، وهي قاعدة أخذ الناس بظواهرهم والابتعاد عن سرائرهم وضمائرهم أو قراءة نواياهم، فكلّ مَن كان ظاهره حَسَناً مواظباً على الطاعات مُجْتَنِباً للمعاصي والمنكرات يُحكم بعدالته ولا يفتّش عن سرّه وسريرته، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع): "مَن عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يُخلِفهم فهو ممّن كملت مروّته وظهرت عدالته"[6].

 

 وفي رواية أخرى: "فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والسّتر وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مُذنباً، ومَن اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية الله"[7].

 

إنّ هذه الأخبار وسواها واردة في الدائرة الإسلامية العامة- إن لم نقل في الدائرة الإنسانية- وهي تؤسس لمبدأٍ هام في الحياة الاجتماعية وهو أنّ كلّ مَنْ يلتزم بظاهر الشريعة يكتسب حُرمة وحصانة تمنع من انتهاك حرمته.

 

مرة أخرى علينا التنبيه إلى أنّ هذه الفكرة المستقاة من الروايات لا ينبغي أن تؤسّس لنوع من السذاجة في المجتمع الإسلامي، الأمر الذي يسهّل عملية اختراقه أمنيّاً وسياسيّاً وعسكريّاً.

 

لأنّنا نقول: فرق بين إساءة الظنّ بالآخر وبين الفطانة والكياسة، وفرق بين التجسّس وبين الحيطة والحذر، إنّ المطلوب من المؤمن أن يكون فطناً حذراً لا تخدعه الكلمات المعسولة والظواهر المزيّفة، وفي الوقت عينه لا يجوز له إساءة الظنّ بالآخرين والتجسّس عليهم وتتبّع عثراتهم وكشف عوراتهم حتى لا يفقد المسلمون الثقة ببعضهم البعض ويتحوّلوا جواسيس على بعضهم البعض.

 

 

التساهل في قبول الإسلام

 

وانطلاقاً من القاعدة المذكورة وهي قاعدة الأخذ بالظاهر فقد فتح الإسلام أبوابه على مصراعيها وشرّعها أمام كلّ الأشخاص الذين يريدون الانتساب إليه، ولم يشدِّد عليهم ولا نقّب عن قلوبهم أو طالبهم بشاهد يؤكّد أنّ اختيارهم له كان عن قناعة ورغبة، وعليه فلا يجوز رفض إسلام شخص يدّعي الإسلام، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً}[النساء: 94].

 

وقد ذكر المفسِّرون في أسباب النزول أنّه لمّا رجع رسول الله (ص) من غزوة خيبر بعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، وكان رجل من اليهود يقال له مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلما أحس بخيل رسول الله (ص) جمع أهله وماله وصار في ناحية الجبل، فأقبل يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله" فمرّ به أسامة بن زيد فطعنه وقتله، فلمّا رجع إلى رسول الله (ص) أخبره بذلك، فقال له رسول الله (ص): قتلت رجلاً شهد أنّ لا إله إلا الله وأني رسول الله! فقال: يا رسول الله (ص) إنّما قالها تعوّذاً من القتل، فقال رسول الله (ص):" أفلا شققت الغطاء عن قلبه، لا ما قال بلسانه قبلت ولا ما كان في نفسه علمت.."[8].

 

ورُوي أنّ قاتل الرجل هو المقداد، كما رُوِي عن ابن عباس أنّها نزلت في رجل من بني سليم مرّ به جماعة من صحابة النبي (ص) فسلّم عليهم، فقالوا: ما سلّم عليكم إلاّ تعوّذاً منكم، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها النبي (ص) فنزلت الآية"[9].

 

 

رابعاً: صحّة أعمال الآخرين وعباداتهم

 

وهناك قاعدة أخرى هامّة أرسى أئمّة أهل البيت (ع) أُسُسَها وشادوا بنيانها، وهي بدورها تساعد على تفكيك وإزالة عوامل التوتّر الداخلي وتعزّز النظرة الإيجابية تجاه المسلم الآخر، إنّها قاعدة: "إجزاء وصحة عبادات وأعمال المذاهب الإسلامية الأخرى" ومفادها: الحكم بصحة عباداتهم وعدم تكليفهم بإعادتها فيما لو اختار أحدهم مذهب أهل البيت (ع) بعد أن كان ملتزماً ببعض المذاهب الأخرى، وهي مستفادة من الروايات الواردة عن الأئمة من أهل البيت (ع) ففي صحيحة الفضلاء عن الصادقين (ع): "أنّهما قالا في الرجل يكون في بعض هذه الأهواء الحروريّة[10] والمرجئة والعثمانية والقدرية ثم يتوب ويعرف هذا الأمر ويحسن رأيه[11]أيعيد كلّ صلاة صلّاها أو صوم أو زكاة أو حجّ أو ليس عليه إعادة شيء من ذلك؟ قال (ع): ليس عليه إعادة شيء من ذلك غير الزكاة لا بدّ أن يؤدّيها.."[12].

 

وفي صحيحة بريد العجلي عن أبي عبد الله (ع)- في حديث- قال: "كلّ عمل عمله وهو في حال نصبه وضلالته، ثمّ منَّ الله عليه وعرّفه الولاية، فإنّه يُؤجَر عليه إلاّ الزكاة فإنّه يعيدها لأنّه يضعها في غير مواضعها"[13].

 

والمستفاد من هاتين الروايتين وغيرهما أنّ الولاية ليست شرطاً في صحة أعمال المكلفين وعباداتهم[14] بل يستفاد من الصحيحة الثانية قبول عبادات الآخرين وليس صحّتها فحسب، على الرغم من عدم وجود ملازمة بين الصحة والقبول، فإنّه قد يحكم فقيهاً بالصحة ولا يحكم بالقبول، كما هو مفاد بعض الروايات الواردة في محل الكلام[15]، ولا سيّما أنّ للقبول شروطاً عديدة أهمها شرط التقوى، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: 27].

 

لكنَّ الروايات- كما لاحظنا- استثنت الزكاة وحكمت بلزوم إعادتها ودفعها لأهل الولاية، ولعلّ ذلك كان إجراءً تدبيريّاً من أئمة أهل البيت (ع)- وليس حكماً تشريعيّاً- سببه قلّة ذات اليد وضِيق حالهم وحال شيعتهم ممّن يعنيهم أمره بفعل الحصار الاقتصادي والمالي الذي كانت تمارسه السلطة ضدّهم آنذاك، ويدلّ على ذلك بوضوح ما ورد في الخبر الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم أنّهما قالا لأبي عبد الله (ع): "أرأيت قول الله عزّ وجلّ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ}[التوبة: 60]"، أكلُّ هؤلاء يعطي وإن كان لا يعرف؟ فقال: إنّ الإمام يعطي هؤلاء جميعاً، لأنّهم يقرون له بالطاعة، قال: قلت: فإن كانوا لا يعرفون؟

 

فقال: "يا زرارة لو كان يعطي مَنْ يعرف دون مَنْ لا يعرف لم يوجد لها موضع، وإنّما يعطي مَنْ لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه، فأمّا اليوم فلا تعطها أنت وأصحابك إلاّ من يعرف..."[16] فإنّ قوله (ع) "فأمّا اليوم.." يدلّ على ما ذكرناه من كون الأمر تدبيريّاً لا مولويّاً تشريعيّاً[17].

 

وكيف كان: فإنّ عدم تكليف المسلم بإعادة أعماله وعباداته السابقة فيما لو انتقل من مذهب إلى آخر هو مظهر من مظاهر السهولة واليسر الذي يتّسم به الإسلام، تماماً كما أنّ قاعدة عدم تكليف الكفّار بالفروع، أو قاعدة: "الإسلام يَجُبُّ ما قبله" وغيرها من القواعد هي الأخرى قواعد تسهيلية[18]ويكفي أن نتخيّل مدى العسر والحرج على المسلم فيما لو حكمنا عليه بإعادة كلّ أعماله السابقة بعد انتقاله إلى المذهب الجديد!.

 

 

 

 

 

26/12/2013

 

 

 


[1] كل ما يتّصل بقاعدة الصحة والحمل على الأحسن كان بحثاً نشرتُه قبل سنوات طويلة على صفحات جريدة بيّنات تحت عنوان "أصالة الصحة في مواجهة الفكر التكفيري" في عددها رقم 210 وقد لاحظت بعد فترة من الزمن أن هذا المقال قد تمّ إدراجه حرفيّاً في بعض الكتب دون إشارة إلى المصدر! وبما أننا نتحدث عن الحمل على الأحسن فإني أحسن الظن بالكاتب، فربما نسي الإحالة أو سقطت سهواً.

[2]  الكافي ج2 ص392.

[3]مستدرك الوسائل ج8 ص410.

[4]القواعد الفقهية للبجنوردي ج1 ص311.

[5]القواعد الفقهية للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج1 ص155.

[6]الكافي ج2 ص239.

[7]وسائل الشيعة ج12 ص285 الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 20.

 [8]بحار الأنوار ج22 ص92، وراجع مسند احمد ج4 ص439، وصحيح مسلم ج1 ص67، وسنن أبي داوود ج1 ص595 وغيرها.

[9] مسند أحمد ج1 ص324، وفتح الباري ج8 ص694.

[10] وهم الخوارج.

[11] المقصود أنّه يصبح موالياً لأهل البيت (ع).

[12] وسائل الشيعة ج9 ص216 الباب 3 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 1.

[13] المصدر نفسه، الحديث2، من الباب

[14] راجع القواعد الأصولية والفقهية في المستمسك، تأليف: الشيخ آصف محسني، ص: 229.

 [15]أوردها الحرّ العاملي في مقدمة كتاب الوسائل، وراجع البحار ج27 ص166.

[16] الكافي ج3 ص496.

 [17]وقد بحثنا هذا الأمر بشكلٍ تفصيلي في بعض المحاضرات الحوزوية.

 [18]راجع حول مظاهر السهولة في الشريعة الإسلامية ما ذكرناه في كتاب "الشريعة تواكب الحياة".