تعتمد الشريعة الإسلامية في أحكامها الموجهة الى المكلفين على مرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية حيث حوت هذه المصادر كل ما يحتاجه الإنسان من تشريعات في مقام الإلتزام بأوامر الله ونواهيه وقد فَقِه المسلمون في الصدر الأول هذه الأحكام من خلال مُزامنتهم لعصر التشريع الذي صدر بلغتهم فكانوا يفهمون الآيات ومداليلها وهي تتلى عليهم من النبي (ص) الذي كانوا يرجعون إليه في تحديد الموقف الشرعي في كل قضية كائنة أو عارضة أو محتملة الوقوع وكان النبي (ص) يعلمهم ويبين لهم ويرشدهم إلى أن اكتمل الدين وأتمت النعمة بترسيخ ما أوجب الله ترسيخه وتبليغ ما أوجب تبليغه. وبعد وفاة النبي (ص) كان المسلمون يتحاجون عند الإختلاف في حكم أي قضية من القضايا بما جاء في المصدرين اللذين لم يقع خلاف في مرجعيتهما (الكتاب والسنة) ومع تقدم مرحلة البعد الزمني عن عصر التشريع بدأت تظهر الإختلافات في الكثير من الأحكام الفقهية والمسائل العقائدية نفياً وإثباتاً ، سعة وضيقاً ، وجوداً وعدماً ... وصار هذا الإختلاف يتسع تدريجياً مع مرور الزمن إلى أن ولدت مدارس استحدثت طرقاً جديدة بغية الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي ومنها القياس والرأي والإستحسان والإجتهاد بمعنى بذل الجهد في سبيل الوصول الى الحكم الشرعي وهذه المهمة تولاها الفقهاء الذين انكبوا على التحقيق والتدقيق في صحة الرواية ومدلولها ووثاقة الراوي وتباين المرويات وغيرها من الأمور التي وقعت محلاً للنقاش والجدل في عملية الوصول الى أحكام الشريعة وهذه العملية الإجتهادية بالمعنى المتقدم كانت تزداد تعقيداً كلما اتسعت المسافة الزمنية بين عصر التشريع وعصر الإستنباط وعليه فقد أصبح الفقيه في مهمته هذه بحاجة الى عناصر جديدة تساعده على إصابة الحقيقة الشرعية في مختلف القضايا والمسائل ولأجل ذلك أُدخلت العديد من العلوم اللغوية والمنطقية والأصولية في عملية الإستدلال والإستنباط وفي جميع هذه الأحوال أصبح الفقيه حلقة الربط بين الشريعة والمكلفين الطالبين معرفة التشريعات هذا التوسط المبني على أسس شرعية كالروايات المتحدثة عن تحمل الفقيه المسؤولية الدينية كنائب للمعصوم فرض نقاشاً في سعة وضيق القائممقامية التي أوكلت له في زمن غيبة المعصوم وما أردنا تسليط الضوء عليه من خلال هذا التمهيد هو إثارة مسألة التخطئة والتصويب للفقيه بمعنى أن الفقيه المجتهد هل يخطىء في إصابة رأي الشريعة أم أنه دائماً على صواب ؟ وهذا ما أتى سماحة العلامة السيد علي الأمين على بيانه في كتابه : رسالة في تخطئة المجتهد وتصويبه فقد اعتمد صاحب السماحة في كتابه المذكور بيان المقصود من التخطئة والتصويب لغة واصطلاحاً ومن ثم دخل الى تحرير محل النزاع الواقع في هذه المسألة لينتقل بعد ذلك إلى بيان ما ورد فيها من أقوال وآراء معرجاً منها إلى بيان أقسام التصويب لينتهي إلى الرأي المختار حيث نفى وجود دليل يدل على عصمة المجتهد بل قيام الدليل النقلي والعقلي على عدمها ويقول سماحته : لا يمكن القول بأن بعض المجتهدين من أصحاب المواقع والمناصب هو المصيب وحده دون غيره فإنه ترجيح بدون مبرر ولا مرجح لدى العقلاء مقبول .. وينفي سماحته أن يكون الإجتهاد مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي لأن دور المجتهد منحبس في استنباط ما هو موجود في المرحلة الأسبق وليس إيجاد المعدوم. ويظهر من خلال ما فهمناه من كتاب سماحته أن المجتهد دوره كدور العلم الكاشف عن الشيء لا الموجد له والمجتهد من خلال جده يسعى للكشف عن أحكام الشريعة تمهيداً لنقلها الى المكلفين بالإلتزام بها ويرى العلامة الأمين أن فكرة التصويب في جذورها قد تكون عائدة الى فكرة سياسية ترمي الى تبرير السلطة وما يقع فيه السلطان من أخطاء وقد يكون ترويج فكرة التصويب والتمسك بها نابعاً من نوايا حسنة ومنبعثاً من دوافع طيبة عند البعض ولكن هذا الرأي يبقى مجرد استحسان لا دليل شرعي عليه والشريعة نهت عن اتباع مثل هذه الإستحسانات التي قد يترتب عليها خطر عظيم لأن فيها إخفاء لحقائق الشريعة وتلبس الدين ثوب الوصولية والإنتهازية وتصادر الحريات الفكرية تحت شعار الحفاظ على المصلحة الإسلامية وتحمل الدين الأخطاء التي يقع فيها العاملون مما يؤدي الى ضعف الثقة بتشريعاته واهتزاز مصداقيته في النفوس والرأي لصاحب السماحة. وبناء على المناقشات والإستدلالات التي قام العلامة الأمين بتدوينها في كتابه يتضح أن المجتهد ليس له ولاية سياسية على المكلفين بصفته كفقيه وينتهى الى قول ما مفاده : بأن الولاية الثابتة للمجتهد ليست ولاية مطلقة على غرار الولاية الثابتة للنبي والإمام المعصوم وأن المجتهد يمكن أن يخطأ الهدف في إصابة الحقيقة. يهمني في ختام مقالي أن أبين وجهة نظر مهمة جداً كان العلامة الأمين قد طرحها قديماً لتفادي الكثير من الأخطاء التي يمكن أن تقع في هذا المقام وهي تأسيس مجلس فقهاء يتم فيه تداول ومناقشة الأحكام الشرعية المستنبطة وطرق ووسائل استنباطها وهذه العملية من شأنها تفادي الكثير من الأخطاء التي يحتمل وقوعها في عملية الإستنباط الذي يدور الكلام حوله في هذا المقام أكتفي بهذا القدر وللمزيد من معرفة ما دار حول مسألة التخطئة والتصويب من نقاش واستدلال فهي مدونة في كتاب سماحة العلامة السيد علي الأمين الذي حمل اسم رسالة في تخطئة المجتهد وتصويبه فمن يرغب بالإطلاع عليها يمكنه مراجعة المصدر المذكور. وختاماً نسأل الله تعالى أن يوفقنا لورود معالم دينه والعمل بها فإنه ولي التوفيق.

بقلم الشيخ حسين عليان