تنذر التطورات المتسارعة على مستوى التدهور في سعر الليرة وتفاقم الأزمة الإجتماعية تزامناً مع فشل المجلس النيابي في انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية وترحيل أي تفاهمات أو مبادرات محلية وخارجية وصولاً إلى الخلاف والسجال حول دستورية الجلسات التي تعقدها حكومة تصريف الأعمال، بواقعٍ من الفوضى على الصعيد السياسي والإداري، بينما ترخي كل هذه الأزمات بظلال قاتمة على معادلة الإستقرار الأمني وتطرح المزيد من التحديات أمام القوى الأمنية، وذلك في ضوء تحذيرات أتت في الأيام الماضية من مسؤولين أمنيين، ومن موفدين ديبلوماسيين، من فوضى أمنية ومعيشية في حال استمر الإنزلاق على كل المستويات . من الواضح أن ذاكرة غالبية المسؤولين والسياسيين تحتاج إلى إعادة شحن من جديد، بجملة من الحوادث المفصلية في تاريخ البلد القريب، علهم يستيقظون من غيبوبة النسيان، ويعودون إلى أرض الواقع، متخلين عن سياسة الإنكار التي تتحكم بمواقفهم، وتنعكس سلباً على تصرفاتهم في المنعطفات الخطرة الغيوم الملبدة التي تتجمع حالياً في الأفق اللبناني، تتجاوز مسألة الشغور الرئاسي، وترتفع فوق مستوى الخلافات الحكومية الأنانية والفئوية، والتي تبقى سخيفة، أمام ما يتهدد لبنان من أخطار إجتماعية وأمنية بدأت تطل برأسها، في أكثر من موقع . تسخين أجواء المرحلة الجديدة بدأ من تظاهرة الموتوسيكلات الملتبسة في الأشرفية، ثم إرتفعت درجة السخونة إلى إطلاق النار على الدورية الإيرلندية في العاقبية، فأدت الى مقتل جندي ايرلندي، وجرح ثلاثة من رفاقه. وما يزيد في الطنبور نغم ترجمة عملية لتحذيرات مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم من إستمرار الفراغ في الرئاسة والشلل في الحكومة، بكلامه الصريح عن رفض مليون وثلاثمائة نازح سوري العودة إلى بلادهم وهو المكلف بملف إعادة السوريين من الحكومة اللبنانية . وإذا أضفنا كلام وزير الطاقة وليد فياض عن عزم وزارته قطع الكهرباء عن المناطق التي لا تدفع فواتير الإستهلاك،وبالتحديد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وخيمات النازحين السوريين تُصبح الرؤية أشد وضوحاً لما يمكن أن يكون عليه الوضع الأمني في البلد، في حال البقاء في العجز الرسمي والشلل الحكومي المتفاقم . الواقع أن حالة التنافر والتنافس السائدة على مستوى الكتل النيابية، وعدم نضوج الطبخة الرئاسية في الخارج قد ضاعفا حالة التردي والضياع في الداخل، وأديا إلى تعطيل السلطة التنفيذية، وإشغال السلطة التشريعية بجلسات فلوكلورية، دون التمكن من إنجاز مشاريع القوانين، ذات الطابع الإصلاحي هذا المشهد الطاغي على كل ما عداه من إعتبارات أخرى، وضع البلاد والعباد أمام معادلة صعبة ومُعقدة إما الإسراع في إنتخاب الرئيس وإطلاق ورشة الإصلاح ،أو الفوضى من المحزن والمخجل القول أن الأرجحية اليوم تميل إلى الإحتمال الثاني، أي الفوضى، بسبب الصعوبات التي تحول دون إتمام انتخاب رئيس ووضع البلد على سكة الإصلاح والإنقاذ . لقد إختبر اللبنانيون مآسي الفوضى في مرحلة الشغور الرئاسي عامي 1989 و1990 ، يوم وضع الموفد الأميركي يومذاك ريتشارد مورفي المسيحيين، بعد صفقته مع الرئيس السوري حافظ الأسد، أمام خيارين أحلاهما مرّ: ميخايل الضاهر رئيساً أو الفوضى. وعندما رفضت القيادات المسيحية الروحية والسياسية خيار الضاهر، إنزلق البلد في مهاوي فوضى أمنية مدمرة، بدأت بحرب العماد عون ضد السوريين، ثم بحربه ضد القوات اللبنانية، التي سُمّيت بحرب الإلغاء، وأدت إلى تدمير واسع في المناطق المسيحية، وحصول الهجرة المسيحية الأولى، والتي قُدِّرت بمغادرة 250 ألف مسيحي لبناني خلال أشهر الحرب الشعواء رُبَّ قائل أن لا إنذار أميركي اليوم، ولا صفقة أميركية مع سوريا، وأن الظروف تختلف عما كانت عليه في تلك الفترة، هذا صحيح. ولكن الأصح أيضاً أن الإنسداد السياسي في الإستحقاق الرئاسي، وتحوّل الخلافات الحكومية إلى أزمة وطنية، وتفاقم التدهور المعيشي، كلها عوامل من شأنها أن تهدد الإستقرار الأمني، وتضع البلد أمام أسوأ الإحتمالات الأمنية، مع تزايد تلاشي هيبة السلطة الشرعية، والإنقسامات العامودية المتحكمة بالمنظومة السياسية . ثمة فرصة وشيكة مازالت تشكل بارقة أمل للبنانيين، بتجنب الأسوأ، من خلال قمة دول الجوار العراقي ، قد تساهم في تهدئة أوضاع المنطقة، في حال توصلت إلى نتائج إيجابية، وفي مقدمتها الأزمة السياسية في لبنان ولكن لا بد من التنويه بأن فكفكة العقد التي تتحكم بالإستحقاق الرئاسي، واستعجال إنتخاب الرئيس العتيد وتشكيل الحكومة القادرة على خوض غمار الإصلاحات،أمور قد تساعد على تجنب لبنان الكثير من المنزلقات ، وما يعني كل ذلك من مضاعفات على أكثر من صعيد داخلي، أمني وسياسي، لبنان أمام خيارين لا ثالث لهما الرئيس والإصلاحات أو الفوضى .