من الواضح في هذه المرحلة أن الاستحقاق الرئاسي دخل في مرحلة تجاذبات بين أطراف إقليمية دولية على خلفية إبقاء الساحة السياسية اللبنانية ومن كل أبوابها ساحة صراعات وتصفية حسابات شخصية ذات أبعاد توسعية. الدليل على ما نقوله يظهر مرحلياً خارطة طريق تتصل بشكل وثيق بكل الكتل النيابية على الصعيد الداخلي وظهرت أيضًا لعبة الأسماء في إطار تموضع داخلي  إقليمي  دولي.


 كل ذلك الأمر يقوم على بدع ومصالح خاصة خارجية وداخلية وعلى حساب نصوص دستورية تحكمها عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية .

 

التصعيد السياسي الذي يرافق تطورات السباق الرئاسي، يكاد يكون أمراً طبيعياً في بلد ديموقراطي متنوع سياسياً، ومتعدد حزبياً، ويُعاني من انقسامات طائفية، سرعان ما تطفو على السطح عشية كل استحقاق دستوري .


لا خوف من احتدام المواجهة السياسية بين القوى السيادية وفريق الممانعة، بعدما أعلن ثنائي حزب الله وحركة امل ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وتمسك الطرف الأول بترشيح ميشال معوض حيث يمكن القول أن متطلبات المعركة الانتخابية، من حيث المبدأ، أصبحت متوافرة بوجود مرشحين الأول للموالاة، والآخر للمعارضة .

 

ولكن يبدو أن توفر المعطيات المحلية وحدها لا تكفي لتحريك المياه الراكدة في الانتخابات الرئاسية، إذ لا بد من انتظار التوافقات الخارجية حتى تكتمل صورة المشهد الرئاسي، الذي تتداخل فيه الألوان الخارجية مع المحلية، وغالباً ما تكون الخارجية هي المرجّحة في الموازين الانتخابية، رغم كل ما نسمعه من أصوات سياسية، من هنا وهنالك، حول الحرص على لبننة الاستحقاق الرئاسي، وإبقائه ضمن الدائرة الداخلية البحتة، وهو كلام بعيد عن الأمر الواقع .

 

في الحسابات الأولية للعملية الانتخابية، يتبين أن أياً من فريقي الموالاة والمعارضة ليس قادراً لوحده تأمين النصاب القانوني للجلسة الانتخابية، والذي يتطلب حضور 86 نائباً، كما أن أيّاً منهما لم يؤمن بعد أكثرية 65  صوتاً، لضمان فوز مرشحه في الجولة الانتخابية الثانية. وهذا يعني بوضوح أن الأطراف المحلية لا تستطيع حسم المعركة الرئاسية لوحدها، وبمعزل عن الاعتبارات الخارجية، الإقليمية منها والعربية ، والتأكيد على ذلك اتى من خلال تغريدة السفير السعودي في لبنان السفير وليد البخاري .

 

وفي السياق الخارجي للمسار الرئاسي، يبدو أن المشروع الفرنسي القائم على ما يُعرف تسوية سليمان فرنجية نواف سلام لم يُقلِّع، لأن أطراف اللقاء الخماسي في باريس غير متحمسين له، لا سيما الدول الخليجية التي ترفض تكرار تجربة تسوية عام 2016 عون الحريري، التي أثبتت عدم واقعيتها، وفشلها الذريع في انتشال لبنان من أزماته، بل أوصلت وطن الأرز إلى دوامة الانهيارات الراهنة .


غير أن تعثر الاقتراح الفرنسي لا يعني أن الاتصالات والمشاورات بين العواصم المعنية قد توقفت، ولكن لا بد من الإشارة بأن الطبخة الرئاسية اللبنانية موضوعة على نار باردة، بانتظار جلاء بعض الغيوم الداكنة في الإقليم، وتحديد اتجاهات التسويات المطروحة، على أكثر من صعيد، لإنهاء بؤر التوتر، واستعادة الأمن والاستقرار في الدول التي تُعاني من مشاكل أمنية واقتصادية واجتماعية .


ولكن ماذا لو تعثرت مساعي التسويات، وتأجلت الحلول المنتظرة أشهراً أخرى، أو حتى سنوات أخرى


من غير المنطقي أن نتوقع أن يكون الأشقاء أو الأصدقاء لبنانيين أكثر من اللبنانيين أنفسهم. والمشكلة المستعصية التي يتعرض لها البلد هو هذا العجز المتمادي من المنظومة السياسية في تحقيق أبسط الخطوات المطلوبة للحد من استمرار الانهيارات أولاً، ثم الالتفات إلى اتخاذ القرارات اللازمة على طريق الإصلاح والإنقاذ ثانياً وثالثاً ورابعاً وخامساً .

وكلما ارتفع صوت في الخارج يدعو اللبنانيين لمساعدة أنفسهم، يحصل العكس تماماً على مسرح السلطة اللبنانية المتهالكة، والتي أسقطت البلد إلى هوة الدولة الفاشلة .


سياسياً، فَشَل ذريع في تمرير الاستحقاق الرئاسي في موعده الدستوري، وانقسامات حزبية ونيابية تعطل العملية الانتخابية، وتساهم في تمديد الشغور الرئاسي، وتداعياته المدمرة على البلاد والعباد .


حكومياً: لا تستطيع حكومة تصريف الأعمال التصدي للأوضاع الاستثنائية، بسبب ما تعانيه من انفصام بنيوي، واضطرار رئيسها لخوض المعارك الضارية، ويتعرض لنيران صديقة وعدوّة، كلما دعا مجلس الوزراء للانعقاد، واتخاذ بعض القرارات التي من شأنها إنقاذ العام الدراسي مثلاً، أو تخفيف معاناة الناس من المآسي اليومية .

 

برلمانياً: أطلقت النهاية التعيسة لجلسة اللجان العامة الأخيرة رصاصة الرحمة على آخر نشاطات مجلس النواب في ظل الشغور الرئاسي، لأن الكتل النيابية المسيحية أجمعت على مقاطعة جلسات تشريع الضرورة وقررت تعطيل اجتماعات اللجان العامة، وبذلك يكون مجلس الأمة قد أقفل أبوابه حتى إشعار آخر .


اقتصادياً: حركة الدولار المتصاعدة يومياً تختصر عمق المأساة التي يعيشها اللبنانيون على مختلف المستويات الاجتماعية والمعيشية، حيث أموالهم محتجزة في المصارف التي تهدد بضياع جنى العمر. والحكومة في غيبوبة عن المعالجات الجذرية للأزمة المالية. وأرقام صيرفة والدولار الجمركي المتضاعفة بسرعة صاروخية، تُنْبئ وكأن الدولار الأسود ماضٍ في رحلة التفلت مخترقاً كل السقوف العالية، بعدما شارف على عتبة المئة ألف ليرة .

 

هذه الخطوط العريضة للواقع المأساوي اللبناني مرشحة للتفاقم، ولمزيد من الانهيارات في حال استمر الانقسام السياسي الراهن، ولم تظهر بوادر الانفراجات في الإقليم، وتُرك لبنان يواجه تداعيات أزماته لوحده، كما هو حاصل حالياً، مع ما يعني ذلك من مخاطر واحتمالات تختلط فيها عوامل الانفراج والانفجار .


فهل نحن أمام: أزمة اشتدي تنفرجي.. أم تنفجري.