رغم الضجيج الداخلي والاهتمام الخارجي فإن ملف الاستحقاق الرئاسي لم يكسر الحلقة المفرغة بعد، حيث الأمور ترواح مكانها وسط ارتباك سياسي واضح إذ لا أحد من الفرقاء السياسيين يستطيع تحديد الاتجاه الذي تسلكه عملية التفاوض بهذا الشأن، وأن جل ما يقال لا يعدو كونه من باب التكهنات والتحليلات، فكلمة السر لم تأت بعد ولم يتلق احد اي إشارات لها وذلك بفعل الغموض الذي ما زال يكتنف المشهد الاقليمي على الرغم من كل ما يقال حول تفاهمات واتفاقات تحصل هنا وهناك .
صحيح ان ما يحصل من حراك خارجي يوحي بأن الملف الرئاسي وضع على نار حامية غير ان الوقائع إلى الآن لم تؤشر إلى حدوث اي خرق قريب في جدار الأزمة، وسط تفاوت في الاراء حول ما يمكن ان يؤول اليه هذا الحراك، فهناك من يقول ان موعد الحل قد اقترب وأن المسافة التي تفصلنا عن انتخاب رئيس باتت قريبة، وهناك من يدعو إلى عدم الإفراط في التفاؤل بانتظار انقشاع الغيوم الاقليمية والدولية التي على أساسها يتحدد مصير الانتخابات في لبنان،  وبما ان الشياطين تكمن في التفاصيل فإنه من الأفضل انتظار الشوط الاخير من عملية التفاوض ان كان على مستوى التفاهم الايراني السعودي أو السوري السعودي، أو ما تقوم به باريس من مسعى على هذا الخط، ففي حال وصلنا إلى تطبيق ما يتفق عليه من خلال هذه التفاهمات بشكل طبيعي وسلس فساعتئذ يمكننا القول بأننا خرجنا من النفق باتجاه الحل ويتم التفاهم على اسم الشخصية التي ستصل إلى سدة الرئاسة . 


 
اختلطت الأوراق السياسية في لبنان من جديد بعد الفشل الذريع لباريس في تسويق سليمان فرنجية للخليجيين كمرشح رئاسي جديد، وتمسك الطرف الأمريكي بالشروط المتفق عليها سابقاً بين الدول الخمس، بحسب اجتماع باريس في 6 شباط الماضي .


ووسط هذه الفوضى السياسية، بدأت مجموعة من الاتصالات عالية المستوى بين أطراف العملية السياسية المحليين والإقليميين والدوليين .


 
بغض النظر عن الخلافات التي عصفت باللقاء الخماسي في باريس، والتباين الذي هيمن على لقاء الثنائي الفرنسي والسعودي في العاصمة الفرنسية، وما تبعه من اتصال هاتفي بين الرئيس ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ورغم التكهنات المتنافرة حول هدف دعوة سليمان فرنجية إلى الاليزيه، ثمة خيط أبيض يربط بين كل ذلك، يُؤكد أن الانتخابات الرئاسية وضعت على نار الاتفاق السعودي ، الإيراني، مثل غيرها من ملفات المنطقة .


هذه المؤشرات تعني، وبشكل واضح، أن الأطراف السياسية اللبنانية لم تعد تملك ترف تضييع المزيد من الوقت، والاستمرار في لعبة المناورات والمزايدات التي عطّلت الاستحقاق الرئاسي خمسة أشهر ونيف، رغم تراكم الأزمات التي تحاصر الوضع اللبناني، وتُطيح بما تبقى من صمود اللبنانيين بمواجهة أشد محنة اقتصادية واجتماعية منذ الاستقلال.


وإزاء الفشل السياسي الداخلي في إنهاء الشغور الرئاسي، والعجز الرسمي عن وضع البلد على سكة الإصلاح والإنقاذ، كان لا بد من نقل الملف اللبناني برمته، وبشقّيه الرئاسي والاقتصادي، إلى عواصم القرار المهتمة بالوضع اللبناني المنهار والمعقّد، والعمل على فكفكة عقده الواحدة تلو الأخرى، بدءاً من حسم الاستحقاق الرئاسي .


أدرك الأشقاء العرب، وخاصة السعوديين، والأصدقاء الغربيين، لا سيما الفرنسيين، باكراً أن الانتخابات الرئاسية هي الخطوة الأساس في مسار معالجة الأزمات في لبنان، والحد من الانهيارات المتوالية، والعمل على تشكيل حكومة تحظى بالثقة الخارجية، وتكون قادرة على تنفيذ الإصلاحات الضرورية.


من بيان القمة الخليجية، إلى المبادرة الكويتية والتي تحولت إلى مذكرة خليجية لاحقاً، إلى البيان الثلاثي الأميركي، السعودي ، الفرنسي الصادر في نيويورك على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، ثم اللقاء الخماسي في باريس، واللقاء الثنائي الأخير. 


توقف مهزلة الجلسات الانتخابية المتتالية في مجلس النواب، وتكثيف المشاورات الخارجية حول الوضع اللبناني، والحركة الدبلوماسية الناشطة بين باريس والعواصم المعنية في المنطقة، إلى جولات السفراء على القيادات السياسية والرسمية، إلى زيارات كبار الموفدين من الخارج، بالأمس مساعدة وزير الخارجية الأميركية بربارة ليف، وغداً وزير الدولة للشؤون الخارجية القطرية محمد بن عبد العزيز الخليفي، كلها إشارات على انتقال الملف الرئاسي إلى الخارج، وأن الأطراف المحلية باتت بانتظار كلمة السر من الخارج.


ويبدو أن الأطراف الخارجية أنهت مبدئياً مرحلة التوافق على المواصفات المطلوبة في الرئيس العتيد، وفي مقدمتها أن لا يكون رئيساً مرشحاً من طرف سياسي معين، سواء الفريق السيادي أو محور الممانعة، ويشكل تحدياً للأطراف الأخرى، وهو الحال الذي ينطبق على النائب ميشال معوض وسليمان فرنجية، كما ويجب أن لا يكون من منظومة الفساد التي أسقطت البلد في مهاوي الإفلاس.


ختاماً مثل هذه المواصفات يعني أن طريق رئيس تيار المردة إلى بعبدا دونه صعوبات، تبدأ بتبني ترشيحه من الثنائي الشيعي، ولا تنتهي عند المعارضة المسيحية، والتي تجمع أكبر حزبين مسيحيين: القوات اللبنانية والتيار العوني ، اللذين وضعا فيتو كبير على اسم فرنجية. ولكن السؤال الذي يراهن على جوابه المؤيدون للأخير هل تستطيع باريس أن تغير الموقف السعودي، وإلى أي حد تؤيد طهران مثل هذا الخيار، في ظل المعارضة السعودية المعلنة لانتخاب حليف حزب الله.