أولاً: نهج الرئيس فؤاد شهاب...

 

 


كان الرئيس الراحل الجنرال فؤاد شهاب، رجلَ دولةٍ من خارج نادي السياسيين، ورث عام ١٩٥٨ دولة خارجة للتو من حربٍ أهلية دامية، وتمزُّق داخلي حول هوية لبنان ودوره العربي في ظل تصادم الأحلاف العسكرية في العالم العربي، فنهض بهذه الدولة برؤية حداثية طالت مختلف القطاعات والمؤسسات، وأعمل مبضع الإصلاح والتحديث في الإدارة العامة والمؤسسات الدستورية، فضلاً عن إنشاء المؤسسات المالية والرقابية: مصرف لبنان المركزي، مجلس الخدمة المدنية، التفتيش المركزي، التفتيش القضائي، إدارة المناقصات، وطال التحديث مشاريع الإنماء وخاصةً في المناطق الريفية والأطراف المهملة، فأنشأ المشروع الأخضر، والمؤسسات العامة التي ترعى شؤون الطاقة والزراعة والصحة والعمل والتربية والقضاء والحريات العامة، لم يكن للراحل شهاب أولاداً أو أقارب ليزجّهم في المناصب العليا والإدارة العامة، لم يكن له حزب أو تيار سياسي كي يعتدّ "بقوّته"، كان شهاب يؤثر الصمت على المواكب والمهرجانات والخطابات الطنانة، كان رجل دولة لم يترك كلمة مكتوبة أو مذكرات أو توصيات أو نصائح وإرشادات فارغة، لذلك كله ظلّت الشهابية كنهج وجود سيادي وإنمائي للدولة، ومدرسة يعود إليها معظم الباحثين والإصلاحيّين في تاريخ لبنان الحديث  وبات شائعاً على ألسنة الجميع: النهج الشهابي "الرشيد"، الدولة الشهابية، المدرسة الشهابية.

 


ثانياً: نهج الجنرال ميشال عون...

 


بخلاف سلفه الرئيس الراحل فؤاد شهاب  تميّزت سِيرة الجنرال ميشال عون بالتناقضات الصارخة، والتجاذبات الحادة التي أودت بلبنان إلى الهلاك، وحافة الدمار والزوال مع اقتراب نهاية عهده آخر الشهر الحالي، فقد ظهر الضابط ميشال عون ضمن الطاقم المُقرّب من الرئيس الراحل بشير الجميّل إبّان الإجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢( انتشرت له صورة وهو يستقبل ضباطاً إسرائيليّين في منطقة المتحف)، وكان له دورٌ بارز في الحرب الأهلية اللبنانية كقائد عسكري بمواجهة القوات المشتركة(التحالف الفلسطيني مع الحركة الوطنية)، ثم سطع نجمه كقائد للجيش يتولى رئاسة حكومة عسكرية بعد خُلو منصب الرئاسة الأولى عام ١٩٨٨، لينخرط بعد ذلك في حروبٍ عبثية، تارةً مع القوات السورية، وطوراً مع القوات اللبنانية، لينتهي في آخر المطاف فارّاً من القصر الجمهوري إلى منفاه الباريسي، الذي استمرّ حوالي خمسة عشر عاماً، وقد تحلّقت حوله جموعٌ كبيرة تعاطفت مع نهجه في مقارعة الوجود السوري، ونشأ من رحم هذه المواجهة التيار الوطني الحر  الذي يُختصر عادةً بالتيار العوني، وقاد عون من منفاه في باريس حملة مناهضة "للإحتلال السوري"، ونسبَ لنفسه دوراً هاماً في إصدار القرار ١٥٥٩ عن مجلس الأمن الدولي، والذي يُطالب بالإنسحاب السوري من لبنان، وحلّ الميليشيات، والقضاء على النفوذ الإيراني الذي يُمثله حزب الله، ليعود بعد ذلك إلى لبنان بمباركة سورية، وينتهي به المطاف في أحضان حزب الله بتفاهُمٍ مكتوب، والتزامٍ ضمنيٍّ بنهج تيار المقاومة والممانعة الذي يحمله حزب الله جهاراً نهاراً( اتفاق مار مخايل بين حزب الله والتيار الوطني الحر)، وذلك في مسارٍ مُغايرٍ تماماً مع تاريخه العسكري والسياسي، وتمكّن أخيراً من اعتلاء سدّة الرئاسة الأولى بفضل هذا التفاهم المُريب، إلّا أنّه وهو يشغل منصب رئاسة الجمهورية كرئيسٍ "قوي"، بات مُقيّداً بتفاهماتٍ مُتباينة ومُتصادمة في معظم الأحيان: تفاهم مع حزب الله، تفاهم مع القوات اللبنانية، وآخر مع تيار المستقبل، مع ميلٍ شديد لِمُمالأة النظام السوري وحلفائه في لبنان، ومُراعاة شكلية لخاطر المملكة العربية السعودية، وتمخّض هذا النهج الإنتهازي والمُساوم والمراوغ، والمُفرّط في سيادة البلد واستقلاله إلى تسليم قوى المقاومة والممانعة معظم مقاليد الأمور في البلد، حتى باتت دويلة حزب الله أقوى عوداً وأشدّ مراساً من الدولة اللبنانية الشرعية التي يرأسها الرئيس "القوي" ميشال عون.

 


شتّأن بين النهج الشهابي الرشيد والنهج العوني الخسيس، هذا "النهج" الذي امتاز بالإنتقائية والإنتهازية والتمييز الطائفي، والأخطر من كل ذلك، التفريط بالثوابت الوطنية والسيادية.