وضعت المواجهة المسلحة التي حدثت ما بين الطيونة وعين الرمانة بنتائجها الدراماتيكية، البلاد أمام مأزق سياسي وأمني لن يكون من السهل تجاوزه، ما أشبه اليوم بالأمس حيث تذكرنا الأجواء المحتدمة بين الثنائي الشيعي وبين حزب القوات اللبنانية بتلك الأجواء التي سيطرت على البلاد بعد حادثة عين الرمانة في نيسان 1975، والتي طالبت فيها الحركة الوطنية المدعومة من فصائل الثورة الفلسطينية بعزل الكتائب على خلفية مسؤوليتها عن الهجوم الدامي على اوتوبيس عين الرمانة الشهير. ويبدو اليوم بأن التاريخ يُعيد نفسه، حيث يطالب حزب الله وعلى لسان أمينه العام السيّد حسن نصر الله، ونواب من كتلة الوفاء للمقاومة بحل حزب القوات، وفتح السجلات القديمة لرئيسه سمير جعجع لإعادة محاكمته. 

 


نترك هذه الصورة القاتمة للوضع الراهن بعد متابعة لكلام السيّد نصر الله يوم الاثنين الماضي، ولمقاطع وردت في كلام لنواب من حزب الله، في مناسبة تشييع ضحايا الأحداث الاخيرة ما بين الطيونة وعين الرمانة. ونسارع إلى القول بأنه من حق اللبنانيين ان يشعروا بمخاطر الانزلاق إلى فتنة وإلى حرب أهلية جديدة في ظل التصعيد الحاصل في مواقف حزب الله وخصوصاً كلام السيّد نصر الله وطلبه إلغاء حزب القوات اللبنانية والذي يمثل شريحة كبيرة وفاعلة في المجتمع المسيحي، وذلك على غرار مطلب عزل الكتائب وما كانت تمثله في الرأي العام المسيحي في عام 1975، وبعد حادثة عين الرمانة.

 


تظهر مخاطر الانزلاق إلى الفتنة بعد تحوّل الاشتباك السياسي إلى اشتباك أمني بدأ ما بين الطيونة وعين الرمانة، ولكنه مرشّح للتمدد نحو مناطق أخرى، وذلك بسبب خطوط التماس القائمة ما بين القوات اللبنانية وحزب الله في مناطق عديدة، تمتد من البقاع الشمالي والأوسط والجنوب وجبل لبنان والضاحية الجنوبية وبيروت، سيؤدي مطلب حزب الله بإلغاء القوات اللبنانية إلى حالة من التوتر بين الجانبين، والتي تنذر بأن يؤدي أي حادث فردي إلى اشتباك مسلح بين المحازبين في الجانبين.

 


 السيّد نصر الله بكلامه يوم الاثنين الماضي حمّل رسائل عديدة لم تقتصر على مهاجمة جعجع واتهامه بالسعي لإقامة كانتون مسيحي، بل تعدت ذلك لكل الدولة ولكل الفئات اللبنانية دون استثناء، وذلك من خلال اعتداده بقوات حزب الله العسكرية، والتي اعتبر عديدها مئة ألف مقاتل، إلى جانب امتلاكها لمائة وخمسين ألف صاروخ، وان الحديث عن وجود هذه القوة العسكرية الكبرى والتي تفوق قدرات الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي في ظل الظروف الراهنة هي رسالة لتذكير الدولة وجميع القوى السياسية بقدراته وجهوزيته للسيطرة عسكرياً وأمنياً على اجزاء واسعة من لبنان بما فيها العاصمة بيروت، وبما يفوق في سرعة تحركه وفعاليتها عما عرفته بيروت ومناطق جبل لبنان في 7 أيّار 2008.

 

لكن يبدو جلياً بأنه قد فات السيّد نصر الله بأنه من خلال التشديد على حل القوات اللبنانية، ودعوته لهم لدينا 100 ألف مقاتل، اقعدوا عاقلين وتأدبوا قد قدّم خدمة كبيرة لجعجع ولحزبه من خلال شد العصب المسيحي والتفاف الأكثرية المسيحية حوله، انطلاقاً من التأكيد على مطلب استعادة الدولة اللبنانية لسيادتها وقرارها الوطني وخصوصاً في موضوعي السلم والحرب. 

 


يضاف إلى ذلك سيكون لكلام السيد نصر الله صداه في أوساط سنية وشيعية ودرزية وارثوذكسية، بحيث تبدّل من مواقفها الحذرة من جعجع ومن القوات على خلفية ارثها وتاريخها في الحرب اللبنانية، وبما ينعكس تأييداً لمرشحي القوات في الانتخابات المقبلة .

 


واتهم السيّد نصر الله القوات وجعجع بأنهم يعملون وفق أجندة أميركية وخليجية، والتي تتركز على استهداف حزب الله. 

 

 

وكان اللافت في الحديث الأخير الاستفاضة في الحديث عن العلاقات مع الجيش اللبناني، مع التذكير بتفاصيل كل الاشتباكات مع جمهور المقاومة بدءاً من جسر المطار عام 1993 ومروراً بمار مخايل، ووصولاً إلى الطيونة وقيام جندي بإطلاق النار على المتظاهرين، في رأينا حاول السيّد نصر الله من خلال هذه المحطة ممارسة ضغوطه غير المباشرة على قيادة الجيش ومديرية المخابرات في موضوع التحقيقات التي تقومان بها لكشف المسؤولين والمتورطين في الأحداث الدامية الأخيرة، وكانت عملية الربط مباشرة وواضحة من خلال الحديث عن متابعته الدقيقة لمسار التحقيق وللاحكام التي ستصدر لاحقاً عن المحكمة. وألمح بوضوح بأنه إذا لم تعجبه الاحكام فسيكون له موقف .

 


وفي هذا السياق الأزمات المتلاحقة، والضائقة التي يعاني منه اللبنانيّون لم تغير من سلوكيات أهل الحل والربط بفك أسر الحكومة كي تتفرغ لمعالجة هذه القضايا الملحّة وولوج باب الإصلاحات، بالتوازي ليس هناك من حلحلة على خط استئناف جلسات مجلس الوزراء ، ما يؤشّر إلى بقاء الأمور على حالها بانتظار نضوج المساعي ولا حلّ لهذه الأزمة المتصاعدة إلا سياسياً. ولكن الحل السياسي غير متوفر حتى الآن لتستمر مؤشرات التصعيد على وقع استفحال الأزمة المالية والاقتصادية، واحتمالاتها الأمنية في ظل الانسداد السياسي والتدهور المعيشي الكبير

 


ختاماً تدعو حساسية ودقة الأجواء الراهنة المسيطرة على البلد ان يتحلى الجميع بالصبر والحكمة وحصافة الخطاب السياسي، وذلك تكريساً للاستقرار والأمن ومنعاً للانزلاق إلى آتون الفتنة الطائفية .