السؤال الأبرز الذي طُرح في الساعات الأخيرة يكمن في الآتي: هل التهديد بـ»قَبع» المحقّق العدلي وتعطيل مجلس الوزراء والتحريض والتعبئة والتهديد وإحياء مشهد 7 أيار 2008، ولو مُصغّراً، سببه تحقيقات القاضي طارق البيطار أم أن هناك ما هو أبعد من ذلك ويتعلق بتحويل لبنان إلى ساحة فوضى؟
 
التصعيد السياسي والعسكري الخطير الذي شهده لبنان في الأيام والساعات الأخيرة لا علاقة له بتعطيل الحكومة ولا بتأجيل الانتخابات النيابية ولا بجر البلد إلى الفوضى ولا بأجندة إقليمية تُنفّذ على الساحة اللبنانية، إنما يتعلّق حصراً بتحقيقات القاضي البيطار وقرار «حزب الله» بكفّ يده، وكأن الحزب لديه معلومات بأنّ القاضي سيتهمه بالانفجار الذي دمّر نصف العاصمة، وإلّا لا مبرر لهذا الاستنفار الذي بدأ منذ حوالى الثلاثة أشهر، بدءاً من التركيز المتواصل للسيد حسن نصرالله على الملف، مرورا بتهديد السيد وفيق صفا، وصولا إلى شلّ الحكومة وتخيير رئيسها ورئيس الجمهورية بين الحكومة واستطرادا الاستقرار، وبين التمسك بالبيطار واستطرادا عدم الاستقرار.


 

وإنّ عدم اتخاذ الحكومة قرارا بتنحية البيطار دفع «حزب الله» إلى تسخين الوضع على الأرض، في رسالة واضحة ان المواجهة مع المحقّق العدلي لن تقتصر على الموقف السياسي الذي خدم الأغراض المطلوبة منه، ولم يعد يكفي لإفهام من يجب إفهامهم انّ التهديدات التي يطلقها سيأتي الوقت ليترجمها على أرض الواقع، وهذا ما حصل تحديدا.

 

وانطلاقا من أن الهدف هو حصرا كَفّ يد القاضي البيطار، تكفي العودة إلى ردّ فعل «حزب الله» على أثر مطالبة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى بتوسيع عمل لجنة التحقيق الدولية لتشمل اغتيال الشهيد جبران تويني، فاتخذَ على أثرها قراراً بتعليق المشاركة في الحكومة وإقفال مجلس النواب ووسط العاصمة، وبالتالي لم يكن لهذه الواقعة أي ارتباط بموضوع آخر، إنما كل الهدف كان منع قيام المحكمة الدولية.

 

والأمر نفسه حصل مع قرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة نزع شبكة اتصالات «حزب الله» الموازية لشبكة الدولة، فاتخذ الحزب قراره في استخدام سلاحه في 7 أيار 2008 من أجل إلزام الحكومة التراجع عن قرارها، ولم يوقِف أعماله العسكرية حتى فرض تراجع الحكومة والذهاب إلى «الدوحة» لانتزاع حق الفيتو.

 


ولا يشذ 14 تشرين الأول 2021 عن هذه القاعدة، حيث ان «حزب الله» لم يهضم ان لبنان الرسمي لم يتلقّف تهديداته، خصوصا ان المواقع الرسمية حليفة له. وبالتالي، بعد ان لجأ إلى التهديد والرسائل وشلّ الحكومة، وجدَ ان الوسيلة الوحيدة المتبقية له هي استخدام السلاح والقوة واللجوء إلى العنف من أجل «تطيير» البيطار.

 

وعلى رغم التحذيرات المتكررة من خطورة استخدام الشارع، وتحديدا في منطقة معروفة الهوية والانتماء، حيث ان التظاهرة ليست في وسط بيروت إنما في العدلية على خطوط تماس تاريخية ومواجهات متواصلة بين وقت وآخر، إلّا انه لم يتردد في توجيه الدعوة إلى هذه التظاهرة عن سابق تصور وتصميم، وقد دلّت كل الوقائع المصورة كيفية الدخول إلى الشوارع الفرعية في منطقة عين الرمانة والهتافات والسلاح الظاهر، ولا يختلف ما حصل في هذه المنطقة عما حصل في شويا وخلدة.

 

وقد وضع «حزب الله» 3 أهداف أساسية ليوم أمس الطويل:

 

الهدف الأول: تحويل 14 تشرين الأول إلى 7 ايار جديد من أجل إسقاط المحقق العدلي على الأرض، فأسقطَ أهالي عين الرمانة مخطط الحزب.

 

الهدف الثاني: إخضاع المنطقة المسيحية من بوابة عين الرمانة التي لها رمزيتها التاريخية، وهو كان يتجنّب استخدام سلاحه ضد المسيحيين كي لا ينعكس ذلك على حليفه «التيار الوطني الحر». ولكن مع تراجع شعبية التيار، ومع اضطرار الحزب إلى توجيه رسالة للمحِّق ومَن لا يتجاوب معه بإقالته، وجدها مناسبة لتوجيه رسالة إلى المسيحيين على غرار الرسالة التي وجهها إلى السنّة والدروز في 7 أيار 2008.

 

الهدف الثالث: توجيه رسالة مثلثة الأضلع: إلى جميع اللبنانيين، وإلى الدولة بكل أركانها، وإلى المجتمع الدولي وواشنطن تحديدا، بأنّ أي محاولة لتطويق «حزب الله» من الباب القضائي او غيره سيرد عليها بالسلاح، واي خطأ في التقدير يتحمل أصحابه المسؤولية.

 

وعلى رغم تجنُّب «حزب الله» سقوط الهيكل اللبناني لأنه المستفيد الأوحد من إمساكه بالقرار الاستراتيجي للدولة، إلا انه لا يتوانى عن فِعل اي شيء ومن دون تفكير ولا حسابات عقلانية ردا على الخطر الذي يتهدده، خصوصاً بعد ان لمس انّ مسار العدالة في انفجار المرفأ سيطاله، فقرر المواجهة واستخدام كل الأسلحة المتاحة: من التهديد، إلى النزول للشارع، واستخدام السلاح.

 

وعلى رغم ان أحداث الأمس لم يُحقّق فيها «حزب الله» نصراً على الأرض بالشكل الذي كان يخطِّط له وإخضاع المنطقة التي دخل إلى شوارعها الفرعية عنوة، إلا انّ هدفه الأساس يبقى في كفّ يد القاضي البيطار، ولا يتوقف أمام أهداف أخرى لم يتمكن من تحقيقها. وبالتالي، السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الأحداث المروعة التي شهدتها البلاد ستدفع المسؤولين إلى البحث عن المخرج القضائي لكف يد القاضي؟


 

ما حصل أمس هو جولة ستبقى ضمن هذه الحدود في الوقت الحالي لأن «حزب الله» لا يريد تفجير الوضع كلياً، إنما هدفه المحدّد هو تنحية القاضي، فهل يمكن ان يتخلى البيطار تلقائياً عن مهمته؟ وماذا لو لم يفعل؟ وماذا لو قررت السلطة تنحيته، فهل يمكن الوثوق بعدها بقضاء ودولة ومؤسسات؟ وماذا لو لم تفعل وواصل القاضي تحقيقاته، فهل سيكرِّر الحزب مشهد 14 تشرين؟

 

إنّ أي متابع للأحداث في لبنان يدرك ان سرعة التطورات وكثافتها قادرة على ابتلاع اي تطور مهما كان كبيرا وخطيرا، إلا انه من الصعب طَي صفحة 14 تشرين التي تسبق الذكرى الثانية لاندلاع انتفاضة 17 تشرين بـ3 أيام. وبالتالي، يصعب طَيها كونها أكدت المؤكّد لجهة الظهور المسلّح وتَوسُّل العنف لتحقيق الأهداف التي تخدم سياسة «حزب الله»، الذي بعد ان وجدَ انّ كفّ يد القاضي لم يتحقّق عن طريق الضغط والتلويح والترهيب والطرق القانونية، لجأ إلى الشارع والسلاح.

 

لكنّ المسألة لم تنته عند هذا الحد، ولن تنتهي قبل معرفة مصير المحقق العدلي، وهناك مشكلة في الاتجاهين، فإذا لم تُكّف يده فهذا يعني انّ الحزب سيواصل جولاته، وفي حال كفّت يده فذلك يعني انّ على لبنان السلام...