تتطوّر العلاقة الخليجية مع النظام السوري واستطراداً العربية، باتجاه التطبيع السياسي، في الوقت الذي تتدحرج فيه العلاقة بين الفريق الأول والنظام الإيراني وأذرعه باتجاه الأسوأ، فمن يجب ان يخشى على وضعه أكثر: القوى السيادية في لبنان أم «حزب الله»؟
 
نجحت طهران في إبقاء النظام السوري على قيد الحياة السياسية، من خلال انخراطها العسكري المباشر، دفاعاً عن استمراره في موقعه، حتى ولو خسر حكمه على مساحة الجغرافيا السورية، إنما الأساس كان الحؤول دون إسقاطه بالقوة، ولكنها فشلت طبعاً وغير قادرة حتماً على منحه شرعية عربية هو بأمسّ الحاجة إليها للعودة إلى الجامعة العربية، ولا شرعية دولية بطبيعة الحال تعيده إلى الأمم المتحدة.


 

فصحيح انّ النظام الإيراني حال دون سقوط النظام السوري، ولكن الأخير يريد الخروج من عزلته العربية والدولية، وخريطة طريق هذا الخروج خليجية بامتياز، وخلاف ذلك يبقى حاكماً على جزء من سوريا ومجرّداً من اي دور سياسي سوري وعربي ودولي، وليس بإمكانه ان يستمر خارج دائرة الدور والتأثير السياسيين.

 

والدور الإيراني في سوريا انتهى عملياً مع انتهاء العمليات العسكرية، واستمراره يندرج في سياق الحفاظ على نفوذه المباشر وليس بواسطة حليفه النظام السوري فقط، كما يندرج في إطار ربط تواجده العسكري بالتسوية السياسية التي يريد ان يكون جزءاً منها تجنّباً لأن يفقد لا فقط جهوده العسكرية والسياسية، إنما أيضاً سوريا كدولة استراتيجية له، تشكّل ممراً وجسراً لذراعه الأساسي في لبنان والمتمثِّل في «حزب الله» ودوره على خط الصراع العربي-الإسرائيلي.

 

وما حققته طهران، بالنسبة للنظام السوري، قد تحقّق من خلال استمراره في سدّة الحكم، ولكن دورها انتهى عند هذا الحدّ، ولم يعد باستطاعتها ان تقدِّم المزيد له، وهذا المزيد الذي يسعى إليه ويشكّل حاجة قصوى له، هو بيد أخصام طهران الخليجيين، وليس بإمكانه انتظار التسوية الدولية والأميركية تحديداً مع طهران لمعرفة مصيره واستعادة دوره، لأنّ مسار التسوية قد يطول وقد لا يصل أساساً إلى برّ الأمان، فضلاً عن خشيته من ان تتمّ اي تسوية على حسابه واستمراريته في موقعه، وبالتالي يريد الإسراع في ترتيب وضعه بمعزل عن مصير التسوية في المنطقة.


 

وبمعزل عن التحالف التاريخي بين النظامين الإيراني والسوري، وبمعزل عن المؤازرة الإيرانية العسكرية للنظام السوري التي أبقته في سدّة الحكم، إلّا انّ بشار الأسد يريد الخروج من ستاتيكو الحرب، لاستعادة شرعيته العربية أولاً والغربية لاحقاً، الأمر الذي لا يمكن ان يتحقّق لا عن طريق طهران ولا من خلال استمرار التصاقه بها، ما يعني انّ عليه الابتعاد عنها لإعادة تعويم وضعه السياسي.

 

واللافت انّ التطبيع الخليجي التدريجي مع النظام السوري يجري على وقع سخونة مع النظام الإيراني وأذرعه في المنطقة، اي على قاعدة الفرز والتمييز بين الانفتاح على الأسد وإغلاق الأبواب أمام طهران، الأمر الذي يثير ريبة إيران وخشيتها للأسباب الآتية:

 

السبب الأول، كون الانفتاح على النظام السوري لا يتمّ عن طريقها ومن خلال التفاوض معها، خصوصاً انّها تعتبر انّه مع دورها بالحرب في سوريا أصبحت الورقة السورية في يدها على غرار ورقة «حزب الله» في لبنان والحوثي في اليمن وميليشياتها في العراق، وبالتالي لم تتوقّع ان تتجدّد المحاولات القديمة بإبعاد النظام السوري عنها.


 

السبب الثاني، كون التطبيع الخليجي مع النظام السوري سيجعله معطّلاً حتى إشعار آخر بالحدّ الأدنى، بفعل حاجته إلى هذا التطبيع، ومن دون إسقاط احتمال ان تفترق السياسات معه بالحدّ الأقصى، ويدخل في عملية تضييق على الجسر الممتد من طهران إلى بيروت، كأقساط عليه تسديدها إلى الدول الخليجية مقابل استعادته لشرعيته العربية.


 

السبب الثالث، كون الانفتاح الخليجي على النظام السوري يحصل في ذروة التصعيد معها ومع أذرعها في لبنان والعراق واليمن، وفي تصعيد يكاد يكون غير مسبوق وأشبه بحرب مفتوحة على شتى الاحتمالات ومن دون هوادة، في محاولة للحدّ من دورها بمعزل عن مفاوضاتها النووية.

 

السبب الرابع، كون التطبيع يحصل على وقع تنسيق ثلاثي روسي وإماراتي وإسرائيلي، وهنا بالذات مكمن الخطورة بالنسبة إلى طهران، باعتبار انّ دخول سوريا ضمن هذا المثلث يمكن ان يقودها او يجرّها إلى السلام مع إسرائيل، فيقع الفصل تماماً بينها وبين النظام السوري، ويُقطع جسرها مع بيروت، ويُصبح ذراعها في لبنان في حكم الساقط عسكرياً، ويضطر إلى الدخول في تسوية سياسية يسلِّم بموجبها سلاحه.

 

السبب الخامس، كون اي تطبيع محتمل يؤدي إلى خسارة إيران ورقة تفاوضية من أوراقها الأساسية، التي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من أدوارها على مستوى المنطقة، فضلاً عن انعكاسات هذا التطبيع على أوراقها الأخرى، باعتبار انّ الجغرافيا السورية محورية لجهة الفصل مع لبنان من جهة، وضبط الحدود مع العراق من جهة أخرى. وفي اللحظة ذاتها التي يتراجع فيها النفوذ الإيراني في العراق، مقابل تقدُّم مشروع الدولة العراقية، وهذا ما أظهرته الانتخابات العراقية الأخيرة.


 

وإزاء كل ما تقدّم، فأنّ الخشية من التطبيع الخليجي مع النظام السوري هي إيرانية بامتياز، كونها تتمّ في لحظة صدام كبرى معها وبعيداً عن اي تفاوض او تنسيق بينها وبين العواصم الخليجية، ولا بل في ظلّ خطة واضحة هادفة إلى الفصل بين النظامين السوري والإيراني، والقطع بين بيروت وطهران.

 

وفي موازاة الجمود على خط التفاوض النووي الإيراني في ظل التشدُّد الأميركي معها، فإنّ المنطقة تتحرّك بوتيرة متسارعة، بدءاً من الأزمة اللبنانية التي أدخلت لبنان في شلل وجمود، من غير المعروف بعد كيفية تطوّر فصول التأزُّم وانعكاسه على الاستقرار، في ظل أزمة مالية مفتوحة على الأسوأ في ضوء غياب المعالجات الجدّية، بعدما عطّل «حزب الله» الحكومة، مروراً بالواقع العراقي على أثر محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وصولاً إلى التطبيع المحرج مع النظام السوري وانعكاسات تتويجه على واقع الدور الإيراني.

 

وكل هذه التطورات او الحراك الحاصل، وضع إيران في موقع الدفاع، بعدما كانت طويلاً في موقع الهجوم، وإذا بها تنتقل إلى تلقّي الضربات الواحدة تلو الأخرى، واستمرار هذا المسار يعني المزيد من التضييق عليها وانتزاع أوراق قوتها الواحدة تلو الأخرى أيضاً. وبالتالي، حيال هذا الحصار أو الإطباق الذي تتعرّض له في أكثر من جانب، فإنّ الأنظار تتركّز على ردّ فعلها وطبيعته، لأنّ استمرار الأمور على هذا المنوال يعني استمرارها في موقع الدفاع وتلقّي الضربات وعدّ الخسائر، الأمر الذي لا يمكنها تحمّله، كونه سيقود في نهاية المطاف إلى خسارة أوراقها والحدّ من دورها.


 

ولذلك، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه: كيف ستردّ عسكرياً وأمنياً، وأين، لأنّ ردودها السياسية التعطيلية انتفت ولم تعد تفعل فعلها، ولم يعد أمامها سوى استخدام العنف والقوة لفكّ الحصار عنها وعن أذرعها على امتداد المنطقة؟ وهل اللجوء إلى العنف أو الحرب يؤدي إلى إنقاذها وإعادة فتح المسارات أمامها، أم سيؤدي إلى مزيد من تعميق أزمتها؟