حسناً فعل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في أن بدأ كلامه من التغيير العميق الذي تشهده منطقة الشرق الاوسط، والذي لم تظهر كل نتائجه بعد على صعد كثيرة. لكن فاته التطرّق الى التبدّلات العميقة التي طاولت المجتمع اللبناني وانفجرت في الشارع، بدءاً من 17 تشرين من العام الماضي، مروراً بانفجار الرابع من آب.
الخطأ الجسيم كان في إنكار التبدّل الذي طرأ على مزاج الناس، والذي ترافق مع انهيار مريع في الاقتصاد والنقد، وسقوط جزء اساس من شريحة الطبقة الوسطى، والتي تؤمّن الاستقرار للأنظمة السياسية، وانزلاق ابناء الطبقة الفقيرة الى مجاهل الجوع.

 

في الكلمة التي القاها عون اقرار لاسلوب جديد، واقرار ضمني بفشل اسلوب المواجهة الذي اعتمده رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل مع الرئيس سعد الحريري. فجوهر ما قاله عون في الأمس، يناقض الرسائل التي كان وجّهها باسيل في ذكرى 13 تشرين.


 
 

في الواقع، سعى باسيل الى رفع مستوى المواجهة مع الحريري، من خلال دفع النزاع الى مستوى المواجهة المسيحية ـ السنّية. لكن الشارع المسيحي لم يتأثر، ليس فقط بسبب تمنّع «القوات اللبنانية» عن المشاركة، ولو من زاوية اخرى في معركة «الميثاقية»، بل لأنّ الاولوية في الشارع باتت للقمة العيش والانهيار الاقتصادي، وتراجع تأثير «التيار الوطني الحر» في الساحة المسيحية. وما كان يصح في السابق، لم يعد ساري المفعول اليوم. وهذا ما قد يكون قد اقلق «حزب الله» الذي بقي واقفاً خلف الستارة في معركة تكليف الحريري، ولو انّه ضمناً كان يفضّل إرجاء تكليفه، على الاقل الى ما بعد ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الاميركية. فالبعض يعتقد انّه يقوم بتجميع الاوراق للمرحلة المقبلة. لكن قد يكون «حزب الله» آثر البقاء جانباً لأسباب كثيرة. منها الوضع الشعبي الناقم على الانهيار الاقتصادي. ففي البيئة الشيعية مساحة واسعة لأبناء الطبقة الفقيرة. كذلك هو يحاذر، خصوصاً في المدة الاخيرة، من مقاربة الملفات التي تحمل حساسية بين الشارعين الشيعي والسنّي. وكذلك هو تحت المجهر الخارجي، ما يستوجب سلوكاً خالياً من الاخطاء، على الاقل في الظاهر.

 

والأهم تجنّب الحساسية الشيعية ـ الشيعية، مع ترؤس رئيس المجلس النيابي نبيه بري المجموعة التي تعمل على اعادة الحريري الى السرايا الحكومية.

 

لكن «حزب الله» قد يكون اكتشف انّ شريكه وحليفه، أي «التيار الوطني الحر» أصيب بأضرار كبيرة على المستوى الشعبي، جعلته غير قادر على هندسة الحملات الناجحة، كما كان يحصل سابقاً. وهو ما يعني انّ الساحة المسيحية اصابها تبدّلات في العمق، ولا بدّ معها من اعادة رسم احتمالات المستقبل.

 

أضف الى ذلك، إنّ «حزب الله» لم ينجح في التفاهم مع الحريري على تفاصيل الحكومة المقبلة وتركيبتها ومهماتها. فاللقاءات بين الحريري ومعاون الامين العام لـ»حزب الله» حسن خليل بقيت في العناوين العريضة ولم تصل الى حدود التفاهم الكامل على وظيفة الحكومة المقبلة، في وقت دخل لبنان في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، وقبيل بدء مرحلة التفاوض الاميركي ـ الايراني حيال الساحة الشرق أوسطية بكاملها، والتي سيكون للبنان كما لسوريا حصّة اساسية فيها.


 
 

والتبدّلات العميقة التي اصابت الساحة اللبنانية، لم تكن هي الوحيدة التي دفعت عون الى اعتماد اسلوب مختلف. فالمناخ الخارجي كان حاسماً في هذا الاتجاه. ففرنسا التي تخوض مواجهة مكشوفة مع تركيا حول النفوذ في شرق البحر الابيض المتوسط، تخوض ايضاً حرباً سرية عنيفة على المستوى المخابراتي مع الاتراك تشمل ساحات كثيرة.

 

وماكرون الذي يتطلع لحجز موقع لبلاده في الشرق الاوسط، قبيل انطلاق مفاوضات ترسيم حدود النفوذ، تراجع مع صفقة اسقاط مصطفى اديب. لكنه ابقى المحركات الفرنسية تعمل، من خلال فريق عمله، لإبقاء الحضور الفرنسي وحمايته. وبخلاف الخطأ الشائع الذي ساد يوم اعتذار اديب، بأنّ واشنطن اجهضت المبادرة الفرنسية في لبنان، إلّا أنّ المعلومات اكّدت العكس تماماً.

 

ذلك أنّ الاهتمامات الاميركية تتركّز حول الحدود البحرية، ورعاية حلف اقليمي بات يُعرف بـ«دول منتدى غاز شرق المتوسط». أما الوضع الداخلي اللبناني فهو بمثابة تفاصيل «ووجع رأس» ومتروك لفرنسا. وأوضحت واشنطن ذلك بطرق متعددة. فالتوضيح الصادر عن السفارة الاميركية عقب زيارة مساعد وزير الخارجية الاميركية ديفيد شينكر لقصر بعبدا، والذي يُعتبر توضيحاً نادراً في علاقات الدول، تعمّد رسم حدود الدور الاميركي، لناحية فصل الإيجابية الاميركية حول موقف قصر بعبدا من مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، وعدم «خلطه» بما هو مطلوب من السلطة اللبنانية في مسائل الاصلاح ومكافحة الفساد.

 

وتلا ذلك، موقف وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو، الذي شدّد على الخطوات الاصلاحية من خلال حكومة قادرة على القيام بذلك.

 

وآخر تلك الرسائل سمعها المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم، الذي سمع من المسؤول الثالث في وزارة الخارجية الاميركية ديفيد هيل، ضرورة ولادة حكومة لبنانية للقيام بالإصلاحات المطلوبة، وأنّ واشنطن تؤيّد المبادرة الفرنسية وتدعمها.


 
 

طبعاً لا حاجة لتكرار ما تعنيه رسالة استثناء باسيل من جولة مسؤول اميركي. وأما زيارة السفيرة الاميركية في الأمس، فهي اشارة رابعة الى الاهتمام الاميركي بولادة الحكومة، كونها جاءت قبل موعد الاستشارات وللوقوف على الخلفيات الحقيقية لباسيل حيال هذا الملف.

 

مع الاشارة الى انّ البعض كان يخشى اعتذار باسيل عن لقاء السفيرة الاميركية بعد استثنائه مرتين من جولات مسؤولين اميركيين كبيرين. لكن هذا لم يحصل، وهو ما عزّز الانطباع بأنّ باسيل يريد فك الحصار المضروب حوله.

 

حتى روسيا كانت قد نالت حصّة من الاتصالات الفرنسية، قبل ان تدفع الحريري ليرشح نفسه، مستغلة الثغرة التي فتحها عون من خلال تحديد موعد للاستشارات. والموقف الروسي كان واضحاً وهو ثابت ولم يتغيّر. فموسكو مع حكومة وحدة وطنية يترأسها الحريري. ومعه تقاطعت كل العوامل وانتجت واقعاً سياسياً جديداً من خلال فتح الابواب امام التكليف.

 

أما حول تعثر التأليف، فإنّ المطلعين لا يتجاهلون هذه الحقيقة، لكنهم لا يعتقدون انّ التعثر سيطول. فالوضع الاقتصادي الضاغط، سيبقى هو العامل الاقوى في هذه المرحلة. وسلاح الدولار عاد ليلعب بقوة. ومعه، فإنّ ما صحّ على مستوى التكليف سيصح بدوره على مستوى التأليف، ولو بعد فترة من التعثر. لكن على الرئيس الحريري الاتعاظ ايضا لانه يفتقد الى دعم الشارع بعد التطورات التي حصلت منذ 17 تشرين وهو محسوب كأحد رموز الطبقة السياسية. فالدعم الخارجي والمطلوب لولادة حكومة لا يعني ابدا استعادة الحريري لبريق دوره السابق. ربما الظروف لعبت لمصلحته ولكن الاختبار الذي ينتظره كبير ودقيق. لكن الاهم التبدّلات التي تشهدها الساحة السياسية، والتي تنبئ بخلط اوراق مجدداً، واعادة صوغ سلوك سياسي يتماشى مع التطورات الاقليمية المقبلة.