منذ الاعلان رسمياً عن تدخّل الرئيس الاميركي جو بايدن المباشر من خلال اتصاله برئيس الحكومة الاسرائيلية يائير لابيد لإنجاز الاتفاق مع لبنان حول الترسيم البحري، بَدا واضحاً انّ واشنطن تريد إتمام هذا الملف سريعاً كونه يشكّل أولوية ملحّة لسياستها.


 

الجميع يعلم بأنّ النزاع الكبير الذي انفجر مع روسيا بسبب الحرب في اوكرانيا شكّل فرصة سياسية للاميركيين لفك ارتباط روسيا عن اوروبا، فالدول الصناعية الاوروبية والتي تملك اقتصادات ضخمة على المستوى الدولي، جعلت نفسها أسيرة «المزاج» السياسي الروسي بسبب حاجتها الملحّة للغاز الروسي، والذي شكّل النسبة العالية لاستيرادها النفطي. وجاءت حرب اوكرانيا لتجعل الاولوية للشعوب الاوروبية الامن على حساب الاقتصاد. وهو ما يعني استعداد الاوروبيين للتضحية في مقابل اعادة بناء مصادر جديدة للطاقة خارج نطاق روسيا. وبالتالي، تسعى واشنطن لتحويل ما أمكن من صادرات الغاز خارج روسيا الى اوروبا. وأحد هذه المصادر موجود في حقل كاريش والحقول الاخرى الخاضعة للسيطرة الاسرائيلية، اضافة الى الحقول المصرية.

 

وجاء التفجير الغامض لخط «نورد ستريم» ليؤكد أنّ قرار فك الارتباط الغازي بين اقتصاد اوروبا وروسيا هو قرار استراتيجي ونهائي ولا بد من تثبيت البدائل مهما كان الثمن.


 

من هنا، فإنّ اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل هو قرار كبير يجب ان يتحقق. صحيح ان غاز لبنان في حقل قانا ما يزال في اطار الاستكشاف، وان موعد الاستخراج منه يتطلّب سنوات، إلا أن العين الاميركية والحاجة الاوروبية هما على غاز كاريش الجاهز للاستخراج ونقله الى اوروبا العطشى لأي كمية غاز مهما كانت متواضعة.

 

ويلاحظ زوار فرنسا على سبيل المثال اطفاء انوار عاصمة النور باكراً وقبل منتصف الليل، والتقنين المفروض على استخدام الكهرباء تخفيفاً لاستهلاك كميات الغاز الذي تتشارَك فيها مع المانيا واوروبا.


 

وفي لمحة سريعة، فإنّ التوقعات تتحدث عن ركود اقتصادي سيطاول المانيا وايطاليا وحتى بريطانيا، وهي بلدان تتمتع باقتصادات كبيرة ومهمة ومؤثرة.

 

لا بل ان التوقعات نفسها تشير الى انخفاض نسبة النمو في منطقة اليورو للعام 2023 الى 0,3% فقط. والمسألة ليست من باب الالتزام الاخلاقي الاميركي مع دول حليفة، لا بل انها تتصل في طريقة اعادة تركيز التحالفات الدولية اثر النزاع الذي انفجر مع روسيا من خلال اوكرانيا، والشروع عملياً في خطة احتواء التمدد الصيني.

 

ففيما تسعى روسيا لاستنساخ سياسة التحدي التي انتهجها الاتحاد السوفياتي عبر تركيز تفاهمات مع دول في اميركا اللاتينية مثل البرازيل والارجنتين وغيرها، ما يهدد المجال الامني الحيوي للولايات المتحدة الاميركية، عملت موسكو وبالتناغم مع بكين على تعزيز حضورها في افريقيا على حساب فرنسا التي تخسر اوراقها ونفوذها بالتدرّج في افريقيا.


 

وهكذا أخرجت موسكو باريس من افريقيا الوسطى في العام 2017، ومن ثم من مالي في العام 2021 وهو ما شكّل ضربة موجعة لفرنسا. وتتعرض فرنسا لضغوط وتحديات لإخراجها من بوركينا فاسو والنيجر وتشاد.

 

كل هذه التحديات تجعل واشنطن ملزمة بنجدة اوروبا منعاً لتوسّع رقعة النفوذ الروسي المتحالف مع الصين في وجه الولايات المتحدة الاميركية والسعي للانتقال الى نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب.

 

لذلك نقلت واشنطن ماكينتها العسكرية والامنية الى بحر الصين الجنوبي، وهي تسعى للاستفادة من بداية مرحلة الركود الاقتصادي الصيني، وفي الوقت نفسه تنتظر بفارغ الصبر نمو خلايا «الايغور» في افغانستان وتغلغلهم داخل النسيج الصيني عبر الحدود المشتركة.


 

وتعمل كذلك على تأمين فك الترابط الروسي ـ الاوروبي، وتعزيز حضور «الحلفاء» الاوروبيين لمنع روسيا من التحكم بقرار القارة العجوز ووراثة نفوذها المتهالك. فتعزيز الحضور الروسي في افريقيا القريبة من دول اميركا اللاتينية حيث العلاقة الصاعدة مع البرازيل والارجنتين، سيُضعف من حرية حركة الولايات المتحدة البحرية والتي ترتكز عليها لفرض سطوتها الدولية.

 

لذلك، باتت منطقة شرق البحر المتوسط مهمة، اولاً بسبب الثروة الغازية التي تحتاجها اوروبا، وثانياً بسبب موقعها الجغرافي القادر على قطع تواصل روسيا مع افريقيا. ومن هنا ايضا الاهمية المستجدة لقبرص ليس فقط على صعيد الغاز، انما خصوصا على مستوى رفع الحظر عن توريدها السلاح. فالجزيرة القبرصية اصبحت مهمة كموقع عسكري يمنع دخول السفن الروسية الى موانئها. لكن التحديات لاحقت ادارة بايدن الى الداخل الاسرائيلي، فالحليف اللدود بنيامين نتنياهو يستعد لعودة شبه مضمونة الى رئاسة الحكومة من خلال الانتخابات الخامسة خلال اربع سنوات. ولأن موسكو لا تأمل ولا تطلب أكثر من توتّر في العلاقة بين ادارة بايدن والحكومة الاسرائيلية، فهي عملت على المساهمة في دفع الناخبين الاسرائيليين من اصول روسية للاقتراع لمصلحة نتنياهو. وهذا ما دفع بالرئيس الاميركي الى التدخل المباشر لإنجاز ترسيم سريع قبل الانتخابات الاسرائيلية. ففي آخر الاستطلاعات بَدا انّ معسكر اليمن برئاسة نتنياهو قادر على استحواذ 61 مقعداً وهو العدد الذي يخوّله تشكيل حكومة من صقور اليمين. وهذا ما قد يهدد اتفاق الترسيم في حال عدم إقراره الآن. صحيح ان مهاجمة نتنياهو للاتفاق تأتي في اطار الحملات الانتخابية، لكنه يخفي ايضاً النيات الفعلية لنتنياهو. ولا بد من التحسّب ايضاً الى مزاج الشارع الاسرائيلي الذي يميل الى المواجهة، فالحملات الانتخابية تصدرها الملف النووي الايراني قبل ان يتراجع بعض الشيء بعد قرار واشنطن بتأجيل توقيع الاتفاق. والمؤشر الاهم هو إدخال «الجيش الاسرائيلي» للمرة الاولى كمادة انتخابية بعدما كان التقليد يفرض تحييده عن النزاعات الداخلية. فظهر النزاع حول هوية رئيس الاركان الجديد بين إصرار نتنياهو على تأجيل تعيينه الى ما بعد الانتخابات فيما يسعى غانتس لتعيينه الآن في المرحلة الانتقالية. وهذا يؤشّر الى السياسة التي يريدها نتيناهو، خصوصا انّ لبنان ظهر في الحملات الانتخابية من باب الوضع الامني والتهديد الذي يمثله «حزب الله» بالنسبة الى اسرائيل. المهم انّ انجاز الترسيم المطلوب أميركياً وبإلحاح سيدفع قبل كل شيء الى اراحة اوروبا وتثبيت معادلة وقف اطلاق النار بين «حزب الله» واسرائيل. وهو ما يعني ايضا ان ثمة تفاهمات اميركية ـ ايرانية في الكواليس تَجلّت في اكثر من مناسبة، فلم تسجل مشاغبة اميركية ضد ايران في العراق او حتى مع احتجاجات الايرانيين، وفي الوقت نفسه تم إطلاق معتقلين بين واشنطن وطهران وتحرير أرصدة مالية إيرانية ناهزت السبعة مليارات دولار.

 

ومن هنا الاستنتاج أن «تمرير» الحزب لاتفاق الترسيم يعطي الانطباع بأن الاستحقاقات الكبيرة التي ينتظرها لبنان ستخضع لمبدأ التفاهمات ايضاً.

 

وهكذا يصبح مفهوماً ما قاله احد ابرز نواب «حزب الله» في جلسة خاصة، من أن قدر الاستحقاق الرئاسي ان نذهب الى تسوية رغم ان ظروفها لم تنضج بعد.

 

ونُقل عن السفيرة الفرنسية انها حملت مقاربة خلال لقاءاتها الاخيرة، تقوم على اساس ان الاولوية الدولية المطلقة هي بوجوب استعادة لبنان لاستقراره وهذا يتطلب كشرط اساسي تأمين المساعدات المالية المطلوبة والتي لا مصدر لها سوى السعودية ودول الخليج. وبالتالي، فإن دول الخليج لن تقدم اي فلس اذا كانت السلطة في لبنان بدءا من رئاسة الجمهورية حليفة لـ»حزب الله» او تشكل تحدياً لها.

 

وتردّد انّ الفرنسيين سمعوا من «حزب الله» أنه يدرك جيداً الظروف الاقليمية واللبنانية، وأنه ليس في وارد السعي لإيصال رئيس للجمهورية يشكل استفزازاً لدول الخليج، ولكنه متمسّك ايضا بعدم وصول رئيس يشكل تهديداً له.

 

انها خارطة الطريق المنطقية لإخماد البركان اللبناني على أمل أن لا تأتي المفاجآت السلبية من اسرائيل.