أمّا وأنّ لبنان قد تجاوز السجال العقيم حول الإعلان عن الاتفاق- الاطار للتفاوض بشأن ترسيم الحدود البحرية والبرية مع العدو الإسرائيلي، فإنّ هذه القضية باتت المعركة التفاوضية التي ستدور رحاها في مقر الأمم المتحدة في الناقورة، لن تكون أقل أهمية من كل المعارك المفصلية، التي خاضها في سياق المواجهة مع إسرائيل، ابتداءً من معركة المالكية وليس انتهاءً بحرب تموز 2006.
بهذا المعنى، وبعيداً من الاجتهادات «الفيسبوكية» و«التويترية»، فإنّ الرابع عشر من تشرين الأول الحالي يمثل انطلاقة لفعل مقاوم متجدّد للبنان، هدفه تثبيت الحق اللبناني في برّه وبحره.

 

هي معركة لن تكون سهلة. فالوفد اللبناني ستكون أمامه مهمة صعبة، تتمثل في معالجة الكثير من الإشكاليات الحدودية، التي ستحاول إسرائيل كعادتها اثارتها إلى أقصى حد، عبر التركيز على «الفوارق» بين الخطوط ونقاط الارتكاز المتعددة التي يفترض ان تُحسم في العملية التفاوضية، بغية الترسيم النهائي في البر والبحر، طالما أنّ الحديث يدور اليوم، وكما طالب لبنان منذ سنوات، عن تلازم المسارين الحدوديين.


 
 

في سياق هذا التلازم، لا بدّ من فهم طبيعة المفاوضات التي بالنسبة للحدود البرية، مرّت هذه الحدود بثلاث مراحل تاريخية، فأصبح لدينا خمسة خطوط على الشكل التالي:

 

في المسار البري، لا شك أنّ العدو الاسرائيلي سيحاول اللعب على التناقضات المتصلة بالخطوط الحدودية الثلاثة القائمة.

 

أولاً، الخط المرسوم بين الانتدابين الفرنسي على لبنان وسوريا والبريطاني على فلسطين، والمعروف بـ«خط بوليه-نيوكومب» (1923)، والمتضمن 38 نقطة حدودية بين رأس الناقورة والمطلة.

 

ثانياً، خط الهدنة في العام 1949، والذي يُعدّ الترسيم الثاني للحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. كان الترسيم الثاني لحدودنا والذي نفّذته لجنة الهدنة المشتركة برئاسة الأمم المتّحدة، وكانت تضمّ أعضاء لبنانيين وإسرائيليين.

 

ثالثاً، الخط الأزرق الذي تحدّد أممياً بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في العام 2000، والمتفرع بدوره بين خط خرائطي، وخط رقمي، وخط احداثيات.

 

كل ذلك، يفرض على الفريق المفاوض أن يذهب إلى أقصى حدّ في الثبات على حقوق لبنان، في ظل الفرضية المؤكّدة، وهي أنّ إسرائيل ستحاول الاستفادة من التناقضات بين الخطوط البرية، لانتزاع ما يمكن انتزاعه من الأرض اللبنانية، إن لجهة الأمتار المربعة الـ 485، التي تحفّظ عليها لبنان عند ترسيم الخط الأزرق، أو في ما يتعلق بمزارع شبعا ومنطقة الغجر.

 

ما سبق ينطبق على المسار البحري، على نحو لا يقلّ أهمية، خصوصاً أنّ إسرائيل بدورها ستحاول، من دون أدنى شك، أن تحرف الخط الحدودي، بما قد يؤدي إلى فقدان لبنان مساحات غنية بالمخزون الغازي.


 
 

ومن المعروف، أنّ الخلافات المتصلة بترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل على ثلاث نقاط أساسية:

 

أولاً، تحديد وتثبيت النقطة «ب-1» عند رأس الناقورة، كآخر منطقة حدودية بين البلدين.

ثانياً، النقطة الثلاثية التي تربط الحدود البحرية بين كل من لبنان وقبرص وإسرائيل.

ثالثاً، إصرار اسرائيل على اعتماد خطها القاعدي انطلاقاً من بعض الصخور التي يُنظر إليها باعتبارها جزراً بحرية، خلافاً لما ينص عليه القانون الدولي.

 

علاوة على الجانب التقني، فإنّ صعوبة معركة ترسيم الحدود تكمن في أنّ الوسيط الذي سيرعاها، أي الجانب الأميركي، إن لم يكن وسيطاً نزيهاً، فهذا يفترض تحدّيات إضافية على إدارة المفاوضات من قِبل فريق التفاوض اللبناني.

 

هذا الأمر، اي انّ الولايات المتحدة لم تكن وسيطاً نزيها، كان واضحاً منذ بداية دخولها على خط ترسيم الحدود؛ وللتذكير، فعلى اثر مفاوضات قادها الرئيس نبيه بري، عرض الموفد الأميركي فريديريك هوف ترسيماً وفق خطّ بات يحمل اسمه، وقسّم الكليومترات المربعة الـ 860 المتنازع عليها، بين جزء تمّ تأكيده للبنان (بمساحة 500 كيلومتر مربع)، وجزء بمساحة 360 كيلومتراً مربعًا خاضع للتفاوض، وهو ما رفضه لبنان.

 

في مرحلة لاحقة، عرض المبعوث الأميركي آموس هوكستاين تسوية النزاع من خلال تطوير «خط هوف»، بما يسمح لشركات الطاقة باستثمار الكيلومترات المربعة الـ 360، وتأسيس صندوق خاص لعائدات النفط والغاز في هذه الرقعة، تتفاوض بشأنه لاحقًا كل من بيروت وتل أبيب على توزيع عائداته، وهو ما قوبل مجددًا برفض لبناني.

 

وبحلول بداية 2019، وبعد جولات عدة قام بها المبعوث الثالث ديفيد ساترفيلد، بدا أنّ الأمور لم تعد في صالح لبنان، خصوصاً منذ أن بدأت أزمته الاقتصادية تلوح في الأفق، وأيضًا بعدما حاولت إسرائيل فرض أمر واقع يتمثل في تلزيم بعض النقاط المتنازع عليها لشركات الغاز الأجنبية، ما أعطى حيثية لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بتطوير خطة آموس هوكستاين، خلال زيارته لبيروت في آذار من ذلك العام، حين اقترح تسوية النزاع الحدودي البحري حصراً، في مقابل تقديم ضمانات لقروض بات الاقتصاد اللبناني في أمسّ الحاجة إليها.


 
 

بهذا المعنى، فإنّ الإدارة الأميركية قد تستغل كافة الظروف السياسية والاقتصادية في لبنان، لمحاولة الضغط بما يخدم المصلحة الاسرائيلية، وهو أمر يلقي مزيداً من التحدّيات ليس على فريق التفاوض اللبناني فحسب، بل على الدولة اللبنانية ككل.

 

قد يكون من المبكر حسم آفاق عملية التفاوض التي ستبدأ اليوم الأربعاء، ومع ذلك فإنّ مجرّد تحريك ملف الحدود من شأنه أن يفتح الباب أمام سيناريوهات، قد تقبل بموجبها إسرائيل بتلازم المسارين البري والبحري، كما يطالب لبنان، في مقايضة بين بضعة حقول غاز وبين تحقيق أهداف إستراتيجية تتصل بملف «حزب الله»، وهذه نقطة حساسة للغاية يفترض أن تكون حاضرة على امتداد فترة التفاوض.

 

قبل أشهر، نشر مركز «ستراتفور» الأميركي للدراسات الأمنية تقريرًا عن آفاق العلاقات اللبنانية-الإسرائيلية، خلص إلى أنّ إسرائيل قد تكون المستفيد الأكبر من ترسيم الحدود البرية مع لبنان، بما يشمل الانسحاب من منطقة مزارع شبعا ومنطقة الغجر، انطلاقًا من أنّ خطوة كهذه ستنزع صفة «المشروعية» عن «حزب الله كقوة مقاومة».

 

المعادلة، وفقاً للتقرير المذكور، هي أنّه «ليس لدى إسرائيل ما تخسره: إذا رفض السيد حسن نصرالله العرض، فلن تحتاج إسرائيل إلى الانسحاب، ولكن هذا الرفض سيكون رسالة للعالم، بأنّ الغرض من «حزب الله» ليس تحرير الأراضي اللبنانية، بل العمل كقوة إنفاذ مسلحة لإيران في لبنان، وستهتز مصداقيته، لأنّ الأحزاب اللبنانية المتنافسة تطالب بالالتزام باتفاقيات الطائف ونزع السلاح، ومع ذلك، فإنّ القبول من شأنه أن يجعل السلام الفعلي الذي يمكن تصوره بين لبنان وإسرائيل يفيد كلا البلدين، كما سيفتح الباب أمام الديبلوماسية للتعامل مع الصراع السعودي - الإيراني، ويسمح بإعادة التفاوض في خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي الإيراني».

 

ربما يكون هذا هو السمّ الذي تحاول اليوم أميركا واسرائيل دسّه في التفاوض على ترسيم الحدود، فهل سيتجرّع لبنان هذه الكأس؟

 

من المؤكّد أنّ الأمر ليس بهذه البساطة، فلبنان الذي أدار لسنوات معركته الحدودية عبر الرئيس بري، لا شك أنّه يمتلك الكثير من المقومات لإحباط أي محاولة احتيال اسرائيلية، او اي محاولات للالتفاف على الاتفاق- الإطار بطروحات خبيثة، ما يجعل المفاوضات المرتقبة حول الترسيم فعلَ مقاومة بامتياز في البر والبحر، وفي الجانب التقني كما في الجانب السياسي.