تحاول السلطة السياسية، التي كانت في حالة عزلة عربية وغربية حتى لحظة وقوع الانفجار-الزلزال، ان تستثمر في هذا الانفجار عن طريق فك عزلتها من خلال التعاطف الدولي مع لبنان.

يعيش لبنان منذ فترة طويلة نسبياً في حصار دولي لأسباب عدة، إلّا انّ المُعلن منها، هو المعادلة التي يكثر تردادها، بأن لا مساعدات من دون إصلاحات، هذه الجملة السحرية او الديبلوماسية التي تُخفي ما تخفيه لناحية حقيقة الموقف الدولي، الذي وصل إلى قناعة واستنتاج مفادهما، انّ «حزب الله» يتنفّس من الدولة اللبنانية، ويستحيل قطع الأوكسيجين عن الحزب ما لم يُقطع عن الدولة. وهذا ما يفسِّر رفض الفريق الحاكم تطبيق الإصلاحات التي ستؤدي حكماً إلى تحجيم دور الحزب وتطويقه، فيما كل المؤشرات كانت تفيد انّ الحصار لن يُرفع عن لبنان ما لم يرفع الحزب يده عن الدولة. وبالتالي، الانزلاق إلى الانهيار الشامل لم يكن فرضية ولا ورقة تخويفية، إنما حقيقة فعلية، في ظلّ صراع دولي كبير لا رحمة فيه ولا أسباب تخفيفية.

 

وأقوى دليل على هذا الحصار، قبل الانفجار، انّ الأزمة المالية تزداد سوءاً وحدّة، ولا مساعدات في الأفق، وأصبح لبنان كالمريض الذي دخل في موت سريري، بانتظار الإعلان الرسمي لوفاته. ولم يتمكن رئيس الحكومة منذ تكليفه، من تحديد اي موعد مع دولة عربية أو غربية، ورئيس الجمهورية يعيش أساساً في عزلة دولية منذ فترة طويلة، وجاءت زيارة وزير الخارجية الفرنسية لتؤكّد المؤكّد، بأنّ المساعدات غير واردة إلّا وفق شروط محدّدة، الأمر الذي أخرج الرئيس دياب عن طوره، ضارباً بعرض الحائط الأعراف واللياقات الديبلوماسية.

 

وفي الوقت الذي كان يجب ان يشكّل فيه الانفجار-الزلزال إدانة للسلطة التي تتحمّل مسؤولية الفشل والإهمال، استفادت من صدمة الناس التي غابت عن الوعي السياسي في الساعات الأولى للكارثة بسبب هول المأساة، وحاولت السلطة ان تمتص اي نقمة بالكلام عن محاسبة، وتنفسّت الصعداء مع الخطوط العربية والغربية التي فتحت معها، فصحّت فيها مقولة «مصائب قوم عند قوم فوائد». ولكن، هل صحيح انّ الانفجار فكّ الحصار الدولي عن الدولة؟

 

بالتأكيد كلا، وعلى السلطة ألّا تفرح كثيراً لثلاثة أسباب أساسية:

السبب الأول، لأنّ قلب المجتمع الدولي هو على لبنان واللبنانيين وليس على السلطة السياسية. ومساعدة لبنان للخروج من نكبته لا يعني مساعدة السلطة على تثبيت أقدامها في الحكم. ومعلوم انّ الضمير العالمي يتحرّك تلقائياً فور وقوع أحداث مأسوية من هذا النوع، الأمر الذي لا يعني إطلاقاً التراجع عن سياسة حصار الدولة وعزلها، طالما انّ الدويلة تتحكّم بمفاصلها.

 

السبب الثاني، لأنّ القضية المطروحة هي إنسانية بالدرجة الأولى، خلافاً لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري التي كانت سياسية بالدرجة الأولى، حيث انّ المجتمع الدولي يريد في ظلّ الدمار الشامل والنكبة الشعبية، توفير المساعدات للبنانيين كخطوة أولى، قبل الانتقال إلى الخطوات اللاحقة بتحميل المسؤوليات وغيره. فالأولوية بالمعيار الدولي هي للإنسان اللبناني، وهو مضطر، في هذه الحالة، الى التواصل مع المؤسسات الرسمية توفيراً للمساعدات المطلوبة، وبالتالي هذا التواصل هو إنساني لا سياسي.

 

السبب الثالث، لأنّ الانفجار-الزلزال يشكّل بالنسبة للمجتمع الدولي ممسكاً على السلطة ومقتلاً لها، وليس صكّ براءة على الإطلاق. ولكن لكل شيء وقته وأوانه. ويُخطئ من يعتبر انّ تدابير كلاسيكية كفيلة بطي صفحة حفرت في وجدان اللبنانيين لعشرات السنوات، بل ستشكّل دينامية بالاتكاء على الخارج أيضاً لتطيح الأخضر واليابس، باعتبار انّ ما حصل ليس ناجماً عن خطأ إداري ضمن هرميات محدّدة ومحاسبات شكلية تقف عند حدود معينة، إنما يشكّل إدانة لمنظومة سياسية بكاملها، بسبب إهمالها منطق الدولة والمؤسسات لمصلحة الدويلة، وتبادل الأدوار فيها بين السلاح والفساد، ويستحيل ان تقوم دولة ممسوكة من دويلة.

 

وإذا كان الفريق الحاكم يعتقد انّ الانفجار-الزلزال سيشكّل له خشبة الخلاص من العزلة الدولية، فما عليه سوى انتظار الأيام او الأسابيع القليلة المقبلة ليتثبّت بنفسه انّ نهايته اقتربت أكثر مما يظنّ ويتوقع، لأنّ لبنان دخل منذ 4 الجاري في مسار التدويل، ولا ينفع مع هذا المسار كل الحديث عن مؤامرات واستهداف لفريق محدّد، ومن أوصل إلى هذا التدويل ليس المعارضة ولا ما يُعرف بقوى 14 آذار سابقاً ولا ثورة 17 تشرين، إنما الفريق الحاكم بنفسه الذي ارتكب بإهماله المتمادي مجزرة إنسانية، ستدفع المجتمع الدولي إلى وضع يده على لبنان حماية للبنانيين.

 

فالتعاطف الدولي مع لبنان هو تعاطف إنساني، وفي اللحظة التي تعالج فيها ذيول النكبة سيتحوّل هذا التعاطف إلى مادة ضغط سياسية لثلاثة اعتبارات رئيسية:

 

الاعتبار الأول، كون لا تراجع في السياسة الدولية والأميركية تحديداً عن مواجهة الدور الإيراني والأذرع الإيرانية، وبالتالي لن يشكّل لبنان استثناءً بفعل نكبته، بل سيشكّل حافزاً للذهاب في هذه المواجهة حتى حدّها الأقصى.

 

الاعتبار الثاني، كون الانفجار-الزلزال فرض نفسه، ولم يترك أمام المجتمع الدولي سوى خيار وضع يده على لبنان، فيكون الرئيس عون قد تسبّب للمرة الثانية على التوالي في التدويل، حيث انّ حرب التحرير التي خاضها، أدّت إلى تدويل لبنان وحلّ قضيته عن طريق تعريبها في اتفاق طائف، وهو اليوم يقود لبنان مجدداً نحو التدويل. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل سيذهب هذه المرة على غرار السابقة إلى لبننة الأزمة منعاً من تدويلها، وتفويت الفرصة على اللبنانيين مجدداً، من أجل استعادة سيادتهم واستقلالهم، كما فوتها في العام 1990 بنقل لبنان من الحاضنة الدولية والعربية إلى الوصاية السورية؟

 

الاعتبار الثالث، كون الشعب اللبناني مهيأ أكثر من أي وقت مضى للتدويل، ويطالب علناً بتدخّل دولي يشكّل له مظلة أمان في مواجهة منظومة دمار وفساد قادت لبنان إلى الانهيار، ولن يفوِّت المجتمع الدولي هذه اللحظة التي تزاوج بين الدولة الفاشلة والحماس الشعبي اللبناني، المصرّ والمصمِّم على التخلُّص من هذا الوضع أكثر من اي يوم مضى.

 

فلا يجب على السلطة أن تفرح كثيراً عملاً بمقولة «يضحك كثيراً من يضحك أخيراً». وقد أحسن الوزير ناصيف حتي بخروجه من مركب سيغرق بمن فيه.. قريباً.