كان يمكن للبنان أن يمرّر المرحلة الصعبة والقاسية التي تمر بها منطقة الشرق الاوسط في ظل النزاع الاميركي - الايراني، بوضعٍ أفضل لولا الازمة الاقتصادية والمالية التي قاربَت الافلاس بسبب فساد الطبقة السياسية وسوء ادارة شؤون البلاد، ما جعل لبنان مكشوفاً وبلا دفاعات او حماية ذاتية.
ولا حاجة الى القول انّ الانحدار السريع للاوضاع في لبنان من المفترض ان يؤدي منطقياً الى تفكك الدولة وتحللها. فالحلول في حاجة الى رعاية خارجية مباشرة، فيما الكباش الاميركي - الايراني، والذي تشكل الساحة اللبنانية إحدى ساحاته، يتم توظيفه في صلب هذا النزاع.

 

لكنّ الواضح انّ لهذا الضغط على الساحة اللبانية حدوداً يراعيها الجميع وفي طليعتها واشنطن وباريس، خصوصاً بما معناه انّ خَنق لبنان لا يجب ان يصل الى حد قطع التنفس عنه نهائياً، ما يجنّب بالتالي خطر تفكك وتحلل الدولة اللبنانية مع مؤسساتها، وهذا ما اشار إليه حتى الامين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله عندما تحدث عن «الاوكسيجين» الذي يحتاجه لبنان. فالنزاع العنيف في المنطقة والمرشّح للتصاعد كلما اقتربنا من موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية وسط «الحشرة» الداخلية الاميركية قد لا يُستنسَخ بحِدّته الكاملة على لبنان. ففي الساحات الايرانية والعراقية والسورية، وحتى الخليجية، ثمة حرب أشباح حقيقية تدور بديلاً من الحرب العسكرية او المواجهة المفتوحة.


 
 

ففي سوريا اغتيالات وتصفيات على مستوى ضبّاط في مواقع حساسة، واستهداف قافلة عسكرية اميركية في شمال سوريا في عملية غلبَ عليها الطابع الاحترافي أعادَ الى الاذهان العمليات التي استهدفت قوافل عسكرية اميركية في بداية الاحتلال الاميركي للعراق. أما سلسلة اغتيالات ضبّاط في الجيش السوري فتوحي وكأنها لترتيب المسرح استباقاً لفرض أمر واقع قبل الدخول الى التسوية السياسية في سوريا.

 

وفي العراق استهداف المنطقة الخضراء ومحيط السفارة الاميركية، واغتيالات طابعها سياسي.

 

وفي المقابل في إيران تفجيرات لمواقع نووية (مفاعل نطنز النووي) واخرى حسّاسة، واندلاع حرائق في منشآت نووية ومصافي تكرير ومحطات طاقة. وهي حرائق وحوادث غير معتادة، خصوصاً انّ حادثة مفاعل نطنز النووي أدت الى إبطاء برنامج تخصيب اليورانيوم لمدة عامين وفق تقييمات دوائر استخباراتية غربية.

 

وبالتزامن، صدرت تقارير اسرائيلية تتحدث عن إحباط جهاز «الموساد» الاسرائيلي هجمات ايرانية ضد مصالح اسرائيلية في اوروبا.

 

هي حروب الاشباح حيث تسمع بها وترى نتائجها الموجعة، لكنك لن تسمع ابداً بالجهة المنفذة ولو انك تشعر بها.

 

فمثلاً، إنّ الهجوم الذي تعرضت له شركة «ارامكو» في السعودية اواخر الصيف الماضي بقي مجهول المصدر، على رغم من انّ أصابع الاتهام اشارت الى ايران من دون تسميتها. فحتى السعودية فضّلت عدم تحميل ايران المسؤولية مباشرة. وهذا يعني مسألتين: الاولى، انّ الجهة المنفذة حريصة على إخفاء بصماتها جيداً وانّ الجهة المستهدفة تستعد لرد مماثل. والمسألة الثانية انّ الذهاب الى الحرب المفتوحة ممنوع ويُحاذره جميع الاطراف.

 

وهذا ما لفتَ إليه ايضاً التقرير الصادر عن «معهد أبحاث الامن القومي» في جامعة تل ابيب، حيث أورد انّ الاستهداف الاسرائيلي لنقل اسلحة متطورة الى «حزب الله» عبر الاراضي السورية يجب ان يستمر، لكن مع محاذرة تجاوز قواعد اللعبة تجنّباً لدفع «حزب الله» الى الرد المُضاد، وانزلاق الامور الى مواجهة عسكرية مباشرة، ما قد يشكّل نافذة إنقاذ له، وفق ما أورده التقرير. ومعنى ذلك انّ الضغوط وتَبادل اللكمات مسموح الى الحد الأقصى، امّا الحرب العسكرية المباشرة فهي خط أحمر لن يتجاوزه أحد.


 
 

وفي التقرير نفسه انّ «حزب الله» يواجه 3 تحديات: واحدة داخلية على خلفية الازمة الاقتصادية، وثانية خارجية على خلفية الضغوط التي تمارس على ايران وحلفائها، وثالثة اسرائيلية على خلفية الغارات التي تستهدف ايران و«حزب الله» في سوريا.

 

وما بين حَدّي زيادة الضغط على «حزب الله» الى الحد الاقصى، وعدم ترك الدولة اللبنانية تذهب الى التفكّك، حصلت مستجدات على الساحة اللبنانية تجمع ما بين الحَدّين.

 

ففيما بَدا واضحاً اهتزاز الوضع الحكومي خصوصاً بعد انحياز، ولو مُهذّب، لرئيس الجمهورية في اتجاه تبديل او على الاقل تعديل حكومي، سارَع «حزب الله» الى إبداء تَمسّكه الثابت ببقاء الحكومة، لكن مع اعتماد خطة ترميم جديدة تمّ إشراك «التيار الوطني الحر» فيها خصوصاً بعد الاتصال الهاتفي الطويل الذي حصل بين السيد نصرالله والنائب جبران باسيل والذي تضمّن تفاهمات جديدة للمرحلة المقبلة، وأدى بداية الى إعادة تعبيد درب العلاقة بين باسيل والرئيس نبيه بري. وجاءت الاشارات التي أعلنها السيد نصرالله في كلمته الاخيرة لتعطي دفعاً وغطاء للحكومة. هو قال انّ التوجّه شرقاً لا يعني أن نُدير ظهرنا للغرب، وكذلك ان «حزب الله» ليس عقبة أمام المساعدة الاميركية. وانّ التعاون مع الصين لا يعني تحويل لبنان نظاماً شيوعياً، وانّ «حزب الله» لا يريد تطبيق نموذج ايران في لبنان.

 

والواضح انها رسائل مهادنة للعواصم الغربية، وخصوصاً باريس وواشنطن اللتين طالبتا بحكومة جديدة لا تضم «حزب الله» بنحو مباشر او غير مباشر. وهي رسائل تسمح بإيصال الاوكسيجين الى لبنان، وهو ما وَصفه السيّد نصر الله «أوكسيجين» يسمح بعدم موت المريض، ولكنه لن يدفع في اتجاه شفائه بالتأكيد.

 

وخلال الايام الماضية وصلت الى الحكومة اللبنانية اشارات لا تعارض إمداد لبنان بـ«الاوكسيجين» المطلوب لعدم إعلان وفاته.

 

كان المسؤول اللبناني الذي تواصَل مع ديبلوماسيين اميركيين يتسلّح بالمنطق التالي: لبنان يكاد يختنق، وفي هذه الحالة فإنّ كل سُبل النجاة من الموت المحتّم تصبح مُباحة ومسموحة لا بل مطلوبة. وبين تَوقّف معامل الكهرباء نهائياً والاستعانة بالبواخر الايرانية الموجودة في البحر، فإنّ الخيار الثاني يصبح مطلوباً مهما كانت العواقب. لذلك من مصلحة واشنطن السماح بوصول بعض «الاوكسيجين» بدلاً من دفعه الى أحضان طهران. ولم يتأخّر الوقت قبل انفتاح أبواب بغداد حيال تزويد لبنان بالنفط بأسعار مشجعة. كذلك حصلت اتصالات مع قطر التي كانت قد وعدت سابقاً خلال انعقاد القمة المالية بوديعة بنصف مليار دولار ثم عادت وتراجعت عنها. وقيل انّ قطر بعثت برسائل ايجابية جديدة، ولكنها في حاجة لأسبوعين على الاقل للتثبّت من تحققها، ذلك انّ اوساطاً ديبلوماسية لا تعوّل كثيراً على دعم مالي كبير، بل ربما الى خطوة رمزية.

 

ودخلت الكويت ايضاً على الخط، لكن الامور ما تزال في بداياتها. ولكي لا نغرق في آمال غير واقعية، فالمطروح «أوكسيجين» لا إنقاذ». وبين الاثنين فارق كبير.

 

فالمطلوب اولاً خطوات اصلاحية من الحكومة طال انتظارها. ورغم المحاصصة البشعة لتعيينات مجلس ادارة كهرباء لبنان بعد طول انتظار، الّا انّ الخطوة حصلت ويجب ان تليها تعيينات اخرى اكثر اهمية مثل الهيئات الناظمة لقطاع الكهرباء وايضاً لقطاع الاتصالات، وتلك التي تُطاول قطاع الجمارك، ووضع «سكانر» في مرفأ بيروت، وكذلك على المعابر البرية. وهذا سيدفع الى عقد جلسة قريبة لصندوق النقد الدولي مخصّصة لقطاع الكهرباء ووضع الخطط التنفيذية. لذلك المطلوب اولاً مؤشرات إصلاحية بادئ ذي بدء في ملف الكهرباء.

 

لكن في المقابل ستبقى الضغوط السياسية والسلوك الهجومي للسفيرة الاميركية. إنّ العارفين يكشفون أنّ الرئيس الاميركي، وعند تعيين دوروثي شيا سفيرة لبلاده في لبنان، مَنحها دعمه الكامل، وأبلغ اليها انّ لديها حرية التحرّك في إطار تنفيذ سياسته في لبنان، لذلك يختلف اسلوب السفيرة الاميركية عن كل الذين سبقوها، فظرفها مختلف ومهماتها مختلفة ايضاً. في السابق، وتحديداً في العام 1988 وعندما طلبت واشنطن من سفيرها في بيروت جون كيلي يومها العمل لتحضير الاجواء امام وصول مخايل الضاهر الى رئاسة الجمهورية بعد اقل من شهرين، أبدى كيلي اعتراضه على القرار كونه لن يتحقق وسيتسبّب بمشكلات كثيرة، ثم تَمارَض، وسافر الى المانيا بحجةّ العلاج.

 

لكنّ الـ 1988 لا تشبه الـ 2020 بشيء، فهنالك من يعتقد انّ لبنان ينتظره في نهاية المطاف وصاية مالية دولية. من يدري؟