ليس امام لبنان سوى الانتظار، لكن السؤال بأي ثمن. فالجميع سلّم بأنّ الحلول ستبقى غائبة الى حين صدور نتائج الانتخابات الاميركية في اقل تقدير، لكن مع فارق اساسي، بأنّ الرئيس الاميركي المحشور داخلياً، سيزيد من ضغوطه على ايران، علّه يدفعها الى طاولة التفاوض، ما سيمنحه ورقة مهمة في حملته الانتخابية المتضعضعة، فيما ترى طهران في التحسن الذي طرأ على وضع الحزب الديموقراطي الاميركي، دافعاً للصمود حتى تشرين الثاني المقبل. ذلك أنّ التجارب اثبتت انّ التفاهم مع الديموقراطيين افضل من تقلّبات ترامب ومزاجيته، التي يغلب عليها «البزنس» اكثر من السياسة. لكن المشكلة انّ لبنان، الذي عانى من فساد الطبقة السياسية وتغليبها لمصالحها الخاصة على المصلحة العامة، بات مكشوفاً ومفلساً، وغير قادر على الرهان على عامل الوقت.

 
أضف الى ذلك، أنّ البيت الابيض قد يجد في الواقع الاقتصادي اللبناني الخطير، والمعاناة الصعبة للمجتمعات اللبنانية، عامل إغراء للضغط اكثر على «حزب الله» وبيئته، علّه يدفع ايران للتراجع عن قرارها بإبقاء قنوات التفاوض مقفلة. ولم يعد سراً، انّ وزير الخارجية الاميركية الاسبق جون كيري، والذي انجز الاتفاق النووي مع الايرانيين، تواصل العام الفائت مع شريكه في إنجاز الاتفاق وزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف، وشجعه على انتظار الانتخابات الرئاسية الاميركية وعدم تقديم اوراق لترامب سيستفيد منها في معركته الانتخابية.

 

لكن الايرانيين، المشهود لهم بالواقعية والبراعة في التفاوض، كانوا لاحظوا انّ الرئيس الاميركي يتجّه الى تحقيق انتصار سهل، ما قد يكون جعلهم يحسبون انّ التفاوض مع ترامب، قبيل موعد الانتخابات، قد يكون الموعد المثالي لتحصيل افضل الممكن. لذلك، وبعد سلسلة ضربات ومواجهات خطيرة، كمثل إسقاط الطائرة التجسسية الاميركية وتفجير ناقلات النفط واغتيال قاسم سليماني واستهداف القواعد الاميركية وتحرّك العمليات الامنية داخل ايران، ظهرت مؤشرات معاكسة، تمثلت بتبادل سجناء وتشكيل حكومة عراقية جديدة للاميركيين حصّة اكبر فيها، وتشكيل حكومة في لبنان والسماح لناقلات النفط الايرانية بالوصول الى فنزويلا الخ...

 

لكن ثمة اشياء مذهلة وغير متوقعة حصلت في الداخل الاميركي، أدّت الى انقلاب وضع ترامب رأساً على عقب، وبالتالي إعادة تجميد ايران لخطواتها الانفتاحية. فمنذ مطلع السنة الحالية تلقّى ترامب ثلاث ضربات قوية ادّت الى هزّ شعبيته بقوة، وهدّدت انتخاباته. الاولى، وهي سقوطه في امتحان التعاطي مع فيروس كورونا، والثاني يتمثل بالانهيار المريع للاقتصاد الاميركي، ولا سيما قطاع صناعة النفط، والثالث، مع الاضطرابات الخطيرة التي اجتاحت المدن الاميركية واعادت الانقسام الداخلي بعد مقتل جورج فلويد.

 

واظهرت سلسلة استطلاعات جديدة، انّ ترامب يتخلّف بما لا يقل عن 5 نقاط في 6 ولايات اساسية، تُصنّف بأنّها متأرجحة، وكانت السبب في نجاحه وهي: اريزونا، فلوريدا، ميشيغان، نورث كارولينا، بنسلفانيا، وويسكونسن. هذه الاستطلاعات اظهرت تأييد فقط 34% من الاميركيين لكيفية تعاطي ترامب مع الاحتجاجات التي حصلت، في مقابل 53% ابدوا رفضهم لها. واللافت، انّ 48% من البيض ابدوا رفضهم في مقابل 40% فقط ايّدوا معالجة ترامب.

 

كذلك تزايدت التبرعات المالية للمرشح الديموقراطي جو بايدن، مع تسجيل استياء واضح لقطاع صناعة النفط في تكساس، بسبب تبديته لعلاقته مع ولي عهد السعودية على المصلحة النفطية الاميركية، ما ادّى الى انهيار الصناعة النفطية الاميركية. كل ذلك دفع بطهران الى اعادة اغلاق قنوات التفاوض بينها وبين واشنطن.

 

وكان من المنطقي ان يسارع ترامب الى زيادة الضغط، لإرغام الايرانيين للعودة الى فتح ابواب التفاوض، ولكن من دون نتيجة.

 

في الواقع، فإنّ الشروط التي يحملها ترامب كقاعدة انطلاق للتفاوض هي:

 

1- الصواريخ البالستية الايرانية.

2- الحشد الشعبي في العراق والميليشيات الرديفة له.

 

3- الاسلحة التي يمتلكها «حزب الله» وحركة «حماس» و«الجهاد الاسلامي».

4- ملف اليمن وترتيب وقف اطلاق النار.

 

والواضح انّ الانطلاق في التفاوض شيء والوصول الى تفاهمات نهائية شيء آخر. وإلّا فلماذا يسمّونها مفاوضات، ما يعني انّ هذه النقاط بحاجة للكثير من الاخذ والرد والبحث بالأثمان البديلة. الحزب الديموقراطي من جانبه نشر برنامج عمله، وهو جهّز حتى المجموعات التي ستتوزع مهام السياسة الخارجية في حال فوزه.

 

وبالنسبة لإيران، فمن الواضح أنّه سيركّز اولًا على إعادة العمل بالاتفاق النووي ولو مع ادخال تعديلات نجح ترامب بإدخالها كأمر واقع جديد، وسيعمل على انهاء ملف اليمن سريعاً، لتأمين وضمان ممرات تسيير النفط.

 

لكن المشكلة، انّه في حال وصول بايدن، فإنّ تسلمه للسلطة وتشكيل فريق عمل الادارة سيستغرقان بعض الوقت، ما يعني انّ الانطلاق لن يحصل قبل الربيع المقبل في افضل تقدير.

 

ومسألة اخرى لا بدّ من التحسّب لها، وهي فترة الاربعة اشهر التي لا تزال تفصل عن موعد الانتخابات، وهي فترة طويلة نسبياً قد تحمل مفاجآت ايجابية لترامب. فخلال الايام الماضية سجّلت المؤشرات الاقتصادية تحسناً كبيراً، وانخفض معها معدل البطالة للشهر الثاني على التوالي. لكن الرقم الاجمالي للبطالة لا يزال قريباً مما كان عليه خلال ازمة الركود العظيم. لكن من يدري؟

 

في هذا الوقت، لا بدّ للبنان ان يبحث عن المسكنات التي ستسمح له بتمرير هذه المرحلة الزمنية الصعبة. لذلك اندفع الفرنسيون لإيجاد ترتيب ما، يسمح بإدخال لبنان الى غرفة العناية الفائقة واحاطته بالرعاية المطلوبة، بانتظار التسوية الكبرى. فالفرنسيون وبخلاف الاميركيين، يحاولون الفصل ما بين انهاك «حزب الله» وتأليب بيئته عليه، وما بين انهاك لبنان ككل، وبالتالي ارتفاع مخاطر سقوط الدولة وتفككها.

 

لذلك حاولت باريس جسّ النبض حيال حكومة جديدة من دون اي حضور لـ«حزب الله» فيها لا مباشرة ولا غير مباشر، ولكن تحظى بموافقة الحزب . ذلك انّ حكومة حسان دياب، بدت عاجزة وضعيفة وغير قادرة على الشروع في الاصلاحات التي تشكّل مفتاح المساعدات. لكن الاقتراح فشل بعد الرفض الواضح لـ«حزب الله» وتمسّكه بالحكومة الحالية، رغم انّ قوى عديدة سارت في مشروع التغيير كحل مبدئي، ومن هؤلاء رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الطامح لحكومة جديدة قادرة على تهدئة الشارع وإنقاذ ما تبقّى من عهده، وفي الوقت نفسه تسمح بإعادة ضمّ النائب جبران باسيل الى صفوفها، لإعادة تلميع دوره الذي اصبح مهمشاً خارج الحكومة، وهو الذي لا يزال يأمل باستعادة حضوره كمرشح لرئاسة الجمهورية.

 

وقيل انّ الرئيس عون اكتشف خطأ وضع قوى سياسية اساسية في موقع المعارض للحكومة. وهو قد يكون مستعداً هذه المرة للقبول بشخصية سنّية تحظى بموافقة شعبية، شرط ادخال تمثيل سياسي مباشر الى الحكومة، ما يسمح بعودة باسيل.

 

وهو في السابق لم يكن معارضاً لتسمية نواف سلام، ما يعني انّه قد لا يمانع اليوم في تسمية محمد بعاصيري اذا تمسّك الحريري بعدم عودته. لكن «حزب الله» رفض، ومبدياً تمسّكه الكامل بحكومة حسان دياب، وكذلك سارع الحريري معلناً رفضه منح تغطيته السياسية لأحد.

 

وقيل بأنّ تواصلاً مباشراً حصل بين باسيل وامين عام «حزب الله» مطلع الاسبوع الماضي، ومعه بدا انّ الحل الوحيد هو بإعادة انعاش الحكومة الحالية، من خلال إنجازات تسمح بفتح ابواب المساعدات الغربية الملحة وفي طليعتها تحقيق اصلاحات مطلوبة. وربما لذلك ستبحث الحكومة في جلستها غداً في تعيينات مجلس ادارة كهرباء لبنان والهيئة الناظمة، بعد سنوات طويلة من الرفض غير المبرر. لكن الخطوة في حال حصولها ستشكّل مدخلاً ممتازاً لإعادة تحريك ملف المساعدات الغربية.

 

وبذلك يكون «حزب الله» قد ضمن ثبات حماية المظلة السياسية. لكنه يدرك انّ هذه الخطوة غير كافية وغير مضمونة.

 

لذلك ذهب باتجاه استقدام مواد غذائية من ايران، وهو سيستمر في خطوته، حيث يجري التخزين في اماكن خاصة، بحيث يطرحها في الاسواق بأسعار مخفضة جداً في حال استمرار ارتفاع الدولار. وقد يكون هذا ما قصده السيد نصرالله في كلامه الاخير بأنّ اللبنانيين لن يجوعوا.

 

تبقى اخيراً الحماية الامنية، حيث يشكّل الفقر عامل اغراء لاختراق سهل للمجموعات الارهابية. لكن العمل الاستباقي والاحترافي للجيش اللبناني والاجهزة الامنية، يعطي نتائج ممتازة حتى الساعة.