يدرك رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل أنه في حال لم يخلف الرئيس ميشال عون في رئاسة الجمهورية فهذا يعني انّ فرصته الرئاسية طارت نهائياً، ولذلك يبدو انه قرّر أن يلعب «الصولد».

لا يتنازل «التيار الحر» عن أهدافه بسهولة، ولا نتكلم هنا عن أهداف وطنية، إنما سلطوية الطابع، حيث اعتاد التمسّك بهذه الأهداف، أكانت وزارية أو رئاسية، مُتّكئاً على تحالفه مع «حزب الله» من أجل انتزاع ما يريده ولو كانت الكلفة أشهراً من التعطيل والفراغ والانقسام السياسي.

 

وما تقدّم يدخل في باب الوقائع السياسية الممتدة منذ العام 2008 إلى اليوم، وهو يعتدّ بهذا التوجّه الذي يضعه في خانة إنجازاته لجهة الوصول إلى الأهداف التي يضعها بمعزل عن كلفتها على مستوى البلد والخزينة والاستقرار.


 
 

ويخطئ من يعتبر انّ باسيل تخلى عن فكرة الرئاسة بسبب ثورة قامت بشيطنته وانهيار مالي حصل في «عهده» وتَراجع في شعبية تياره وخلافه مع معظم القوى السياسية وتردّي علاقاته الدولية والعربية، فهو ما زال مصرّاً على هدفه الرئاسي كأنّ شيئاً لم يحصل، ويخطط من أجل بلوغ هذا الهدف، لأنه يدرك جيداً انّ فرصته في ظل وجود عون في بعبدا لن تكون كما بعد عهد عون، بل يمكن ألّا تتكرر.

 

فالرئاسة لحظة وظرف، وما يمكن تحقيقه اليوم يصعب الوصول إليه غداً، وتجربة عون ماثلة أمام باسيل لناحية انه انتظر من العام 1988 حتى العام 2016 من اجل أن ينتخب رئيساً، ولولا ظروف محلية وخارجية معقدة ومتداخلة ومتشابكة كان يمكن ألّا يدخل إلى القصر الجمهوري. وبالتالي، لا يريد ان يفوِّت على نفسه ما هو مُتاح اليوم من خلال عون في بعبدا والسّيد حسن نصرالله في الضاحية.

 

ولا يأبه باسيل للعوامل الخارجية والشعبية والمالية، بل يظنّ انّ الثنائية التي أوصَلت عون إلى بعبدا ما زالت قادرة على إيصاله طالما انّ التوازن الإقليمي الكبير لم يتبدّل بعد، وفي هذا المجال يمكن الكلام عن 3 سيناريوهات تصبّ في اتجاه واحد وهو الدفع لتبنّيه رسمياً من قبل «حزب الله»:

 

السيناريو الأول التمايز عن «حزب الله» من دون تفاهم وتنسيق مسبق معه في سياق توجيه الرسائل له في أصعب وأدق لحظة يجتازها الحزب، وأبرز هذه الرسائل انّ الأخير لا يمكنه اجتياز تحديات هذه المرحلة المحلية والإقليمية والدولية من دون حليف وازن، وهذا الحليف على استعداد لأن يواصِل الدور الذي بدأه منذ العام 2006، ولكن كلفة استمرار الغطاء والتحالف دعم خيار باسيل رئاسياً، فلا يوجد شيء مجّاني في السياسة، خصوصاً انّ القاعدة التحالفية بين الطرفين قامت على معادلة واضحة المعالم: الحزب يدعم التيار سلطويّاً، والثاني يغطّي سلاح الأول ودوره، ولا مبرر موضوعيّاً لانتفاء هذه المعادلة، وفي حال قرّر الحزب التراجع عنها لا يمكنه أن يلوم التيار على تراجعه عن الشق المتعلق به.


 
 

وهذا ما يفسِّر التناقض الذي خرج فجأة إلى العلن في أكثر من ملف وعنوان لسببين أساسيين: الأول بعدما لمس العهد بأنّ الحزب ليس فقط في غير وارد تبنّي باسيل رسميّاً، إنما يترك فريق العهد وحيداً في معاركه مع «أمل» و»المردة»، ويعطي الانطباع بأنه أقرب إليهما من قربه للعهد. وبالتالي، في حال تَواصل هذا المسار من دون فرملته سريعاً فيمكن ان يؤدي إلى دعم خيار فرنجية. والسبب الثاني انّ عامل الوقت المتّصل بالتطورات والانهيارات والتحولات يجعل العهد في عجلة من أمره.

 

ومن هذا المنطلق يضع العهد الكرة في ملعب الحزب، فإذا كان باستطاعته ان يخوض المواجهة منفرداً فليفعل، ولكنه لا يستطيع ان يطلب من التيار دعماً مجانياً له انعاكاساته على شعبيته وعلاقاته الداخلية والخارجية من دون ثمن مقابل.

 

السيناريو الثاني التواطؤ الإيجابي مع «حزب الله» من أجل ان يبرر الأخير أمام فرنجية وغيره اضطراره إلى دعم ترشيح باسيل ربطاً بحاجته إلى حليف قوي بتمثيله وحجم تكتله النيابي، لا سيما انّ رئيس «التيار الوطني الحر» يدرك خطورة «اللعب» مع الحزب وعلى الحزب في لحظة مصيرية. وبالتالي، الرسائل المتطايرة هي رسائل مدروسة ومتّفق عليها بالتكافل والتضامن بين الطرفين.

 

فدعم خيار باسيل يختلف عن دعم خيار عون، والحزب مضطرّ الى إعطاء الأسباب الموجبة لدعم اي خيار تجنّباً لخسارة اي حليف، وذلك خلافاً للانطباع السائد لدى البعض بأنّ الحزب يأمر ولا من يناقش في التنفيذ، فيما إدارته للعبة الداخلية تختلف جذرياً عن إدارته للشأن الإقليمي.

 

السيناريو الثالث توجيه باسيل رسائله إلى الولايات المتحدة بأنه قادر ساعة يَشاء على التمايز عن «حزب الله» من جهة، وبأنه الأقدر من جهة أخرى على العبور بلبنان إلى الضفة التي تريدها واشنطن من دون هزّ الاستقرار في لبنان على غرار ما حصل في ملف عامر الفاخوري الذي شكّل بروفا يمكن توسيعها، باعتبار انّ أي طرف آخر غير وازن وغير موثوق لدى الحزب لن يكون باستطاعته ان يؤدي الدور الذي باستطاعة باسيل تأديته.

 

ويرتكز هذا المنطق الموجّه للخارج على انّ لبنان لا يحتمل رئيساً ضد الحزب، كما انه لا يحتمل رئيساً للحزب، فيما الحيثية الشعبية والنيابية التي يمتلكها التيار تجعل العلاقة بينهما متوازنة لناحية حاجة كل طرف للآخر، الأمر الذي يمكِّن التيار من إقناع الحزب بالتسويات المطلوبة دولياً، وذلك انطلاقاً من المعادلة الآتية: بقدر ما انّ الحزب بحاجة لطرف موثوق ووازن، بقدر ما انّ الخارج بحاجة لصِلة وصل مع الحزب.

 

وبمعزل عن صحة هذه السيناريوهات ودقتها، إلّا انّ الثابت والأكيد هو انّ تصميم باسيل الرئاسي لم يتراجع قيد أنملة، وانه سيتوسّل اي شيء لبلوغ هدفه قبل انتهاء عهد عون او بعده شرط ان يجري التسليم والتسلّم بينه وبين عون، ويعتقد انّ وضع «حزب الله» المأزوم محلياً وإقليمياً أكثر من مؤاتٍ بالنسبة إليه ليلعب «الصولد» تحقيقاً لمبتغاه السلطوي.


 
 

وفي موازاة تصميم باسيل الرئاسي لا يمكن التقليل من 4 عوامل أساسية:

 

العامل الأول شعبي بامتياز، حيث انّ اي تفكير بخلافة باسيل لعون سيؤدي إلى ثورة شعبية من نوع آخر، ولا يمكن بعد 17 تشرين التقليل من دور الناس وصوتها، وإذا كان الرأي العام ليس ناخباً في الاستحقاق الرئاسي، خصوصاً في حال عدم الذهاب الى انتخابات مبكرة او التمديد للمجلس الحالي، إلّا انه لن يتساهل مع انتخاب باسيل، وبمعزل عن الأزمة المالية سيندفع بثورة مليونية تُسقط كل شيء بالقوة.

 

العامل الثاني يرتبط بالقوى السياسية التي هي على خصومة مع باسيل، والتي لا يمكن ان تكرر تجربة انتخاب عون لأسباب سياسية وشعبية واقتصادية، ومعلوم انّ دعم «حزب الله» له غير كاف لانتخابه رئيساً للجمهورية بدليل انّ دعمه منفرداً لعون لم يحقق الهدف المنشود. وبالتالي، إنّ التعويل على تكرار السيناريو نفسه هو في غير محله. العامل الثالث يتعلق بـ»حزب الله» الذي تراجعت حاجته إلى الغطاء المسيحي على أثر التبريد السني معه، فهذه الحاجة كانت في زمن الانقسام العمودي، ولكن في ظل سياسة التبريد والتقاطع السنيّين انتفَت الحاجة إلى هذا الغطاء، لا بل مأزومية باسيل السياسية والشعبية تجعله بحاجة للحزب لا العكس.

 

العامل الرابع يتصل بالجانب الدولي الذي ليس في وارد التجديد للعهد من خلال انتخاب باسيل، خصوصاً انّ التجربة مع عون لم تكن مشجعة لجهة الوعود غير المحققة بترسيم العلاقة بين الدولة والحزب، كما انّ حاجة لبنان إلى صندوق النقد الدولي تجعل التأثير الدولي كبيراً في الاستحقاق الرئاسي المقبل.

 

وبناء على كلّ ما تقدّم من أسباب واعتبارات، يمكن الجزم بأنّ حظوظ باسيل الرئاسية في الاستحقاق المقبل معدومة، ولكن هذا لا ينفي انه غير مقتنع بذلك، وانه لن يعدم وسيلة تحقيقاً لهذا الهدف الذي لن يبصر النور. ولذلك، يجب توقّع ارتفاع منسوب حراك باسيل في كل الاتجاهات وتمايزاته على أكثر من مستوى.