لماذا جاء ترامب ببولتون المعروف بمواقفه المتطرفة من إيران إلى موقع المستشار لشؤون الأمن القومي إذا كان سيقوم باستدارة كاملة في مرحلة معيّنة من أجل البقاء في البيت الأبيض أربع سنوات أخرى.
 

يطرح طرد جون بولتون من موقع مستشار الرئيس دونالد ترامب لشؤون الأمن القومي أسئلة أكثر بكثير مما يوفر أجوبة. لعلّ السؤال الأول هل سيطرأ تغيير على سياسة الإدارة الأميركية تجاه إيران أم لا؟

 

ليس سرّا أن بولتون كان من صقور الإدارة الأميركية وكان همّه الأول يتمثل في مواجهة إيران وسياستها. ليس معروفا بعد هل قرّر ترامب التمهيد لقمّة مع الرئيس الإيراني حسن روحاني على هامش دورة الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، خصوصا أنّه تردّد أن إيران اشترطت قبل انعقاد مثل هذه القمّة التخلص من جون بولتون الذي لم يخف يوما عداءه للنظام الإيراني الذي لم يتردّد الرئيس الأميركي في وصفه بأنه نظام “إرهابي”.

 

ليس مهمّا أن يتغيّر بولتون الرجل الذي لم يخف يوما عداءه لـ”الجمهورية الإسلامية” التي يعرف جيدا مدى خطورة مشروعها التوسّعي في المنطقة، وهو مشروع قائم أساسا على الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية. المهمّ هل هناك تغيير في الموقف الأميركي من العقوبات على إيران. فما تبيّن مع مرور الوقت أنّ لهذه العقوبات تأثيرا أكبر بكثير مما يعتقد، خصوصا أنّها أدت الغرض المطلوب منها، والذي يتمثّل في تضييق الخناق على إيران.

 

بسبب العقوبات، لم تعد إيران قادرة على الاستمرار في مشروعها التوسعي القائم على ميليشيات مذهبية أنشأتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن. تقوم هذه الميليشيات مقام “الحرس الثوري” الإيراني وتنفذ كلّ المهمات المطلوبة منها ويكون الضحايا، من العراقيين أو السوريين أو اللبنانيين أو اليمنيين، فداء لإيران التي تطمح يوما إلى صفقة مع “الشيطان الأكبر” الأميركي أو “الشيطان الأصغر” الإسرائيلي.

 

ثمّة مدرستان في واشنطن. تقول إحداهما إنّ ترامب يمهّد لحوار مع إيران وأن هذا الحوار آت لا محالة في ضوء رغبة الرئيس الأميركي في تفادي أي مواجهة عسكرية ستقضي على أيّ أمل في إعادة انتخابه لولاية ثانية في تشرين الثاني – نوفمبر من السنة 2020. يصرّ المؤمنون بهذه المدرسة على أن لا همّ لدى دونالد ترامب سوى العودة إلى البيت الأبيض، حتّى لو كان ذلك على حساب السياسة الإيرانية التي وضع أسسها في بداية عهده، والتي تُوّجت بتمزيق الاتفاق النووي الذي وقّعته إيران مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا في تموز – يوليو من العام 2015 عندما كان باراك أوباما لا يزال في البيت الأبيض. أصرّ الرئيس الأميركي الحالي على أن هذا الاتفاق هو “الاتفاق الأسوأ” الذي يمكن التوصّل إليه مع إيران.

 

وضع ترامب الأسس لسياسته الإيرانية عبر خطاب مشهور بعد سنة من دخوله البيت الأبيض عدّد فيه ما ارتكبه النظام في إيران منذ العام 1979، تاريخ سقوط الشاه وقيام “الجمهورية الإسلامية” التي أسسها آية الله الخميني. لم يترك حدثا إلا وأتى على ذكره بما في ذلك احتجاز الدبلوماسيين في سفارة الولايات المتحدة في طهران لمدّة 444 يوما ابتداء من تشرين الثاني – نوفمبر 1979، تمهيدا لتحوّل الجمهورية الإسلامية إلى نظام لا علاقة له بأي نوع من الديمقراطية والليبرالية والقيم الحضارية التي تؤمن بها المجتمعات المتطورة في أوروبا أو في القارة الأميركية أو في آسيا نفسها.

 

يؤكد القائلون إنّ ترامب لا يؤمن بالمبادئ، وأنه مجرد تاجر يبحث عن مصلحته وأنّ أميركا مقبلة على حوار مع إيران في اتجاه صفقة جديدة ترضي الطرفين. ستعتبر إيران أن هناك حفاظا على الاتفاق في شأن ملفّها النووي وأن الانتصار الأكبر بالنسبة إليها يتمثّل في رفع العقوبات الأميركية. في المقابل، ستعتبر الإدارة الأميركية أنّها استطاعت التوصل إلى إدخال تعديلات جوهرية على الاتفاق النووي بما يسدّ الثغرات التي جعلتها تضع نهاية له. ليس مهمّا هل هذا صحيح أم لا. المهمّ أن ترامب استطاع في نهاية المطاف تفادي مواجهة عسكرية يمكن أن تقضي على أي أمل بعودته إلى البيت الأبيض في 2020.

 

يقول المؤمنون في واشنطن بالمدرسة الأخرى إنّ بولتون ليس إدارة ترامب، وإنّه لن يحصل أي تغيير دراماتيكي في شأن إيران والسياسة المتبعة تجاهها التي في أساسها العقوبات. يؤكد هؤلاء أن هناك ضمانة لاستمرار السياسة المتشددة تجاه إيران وأن من يرمز إلى هذه السياسة هو وزير الخارجية مايك بومبيو الذي لم يخف يوما اعتراضه على المشروع التوسّعي الإيراني، ولم يكن في يوم من الأيّام أقلّ تطرّفا وتشددا من جون بولتون.

 

وحدها الأيّام ستكشف أي مدرسة ستنتصر في واشنطن، لكنّ الأكيد أنّ بومبيو لا يزال يشكل ضمانة للاستمرارية في السياسة الأميركية تجاه إيران. لم يتردد وزير الخارجية الأميركي في كشف إيران وما تقوم به في الداخل وفي المنطقة كلّها بوضوح، ليس بعده وضوح، يجعل من جون بولتون شخصا ثانويا لا يؤخّر وجوده ولا يقدّم بعدما أخذت وزارة الخارجية تستعيد وزنها.

 

الأهمّ من ذلك كلّه أنّ السياسة الأميركية تجاه إيران لم تعد مرتبطة بشخص ترامب وحده، وذلك على الرغم من أنه الرئيس وأنّه يستطيع أن يفعل ما يشاء. هناك إضافة إلى وزارة الخارجية المؤسسة العسكرية والأمنية الأميركية التي تدرك ما الذي يعني الاستسلام لإيران. هناك نائب الرئيس الأميركي مايك بنس الذي يبقى، على الرغم من أنّه لا يملك أي سلطات فعلية، رمزا للتشدد تجاه إيران… من منطلق أيديولوجي.

 

تبقى نقطة أخيرة مرتبطة بما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الإسرائيلية المقررة في السابع عشر من الشهر الجاري. ستكون هذه الانتخابات مفصلية بالنسبة إلى مستقبل بنيامين نتنياهو الذي يدعو إلى اتخاذ موقف في غاية الصرامة من الملف النووي الإيراني. ليس مستبعدا افتعال نتنياهو حدثا كبيرا قبل موعد الانتخابات بغية حماية نفسه من الملاحقة القضائية والعودة إلى موقع رئيس الوزراء. يلعب نتنياهو في هذه الانتخابات بمستقبله السياسي، بل بمستقبله الشخصي في ضوء الملفّ القضائي الذي أعدّ له.

 

بإبعاده بولتون، كشف دونالد ترامب أنّه شخص مزاجي إلى حدّ كبير. لماذا جاء بهذا الشخص المعروف بمواقفه المتطرفة من إيران إلى موقع المستشار لشؤون الأمن القومي إذا كان سيقوم باستدارة كاملة في مرحلة معيّنة من أجل البقاء في البيت الأبيض أربع سنوات أخرى. هذا إذا تبيّن أن تغييرا ما سيطرأ على السياسة الأميركية كان وراء طرد جون بولتون.

 

ما حدث مع بولتون يثبّت مخاوف غير طرف عربي تعاطى مع إدارة ترامب بحذر شديد من منطلق أن الرجل ليس من النوع الذي يمكن الوثوق به إلى آخر حدود… بل من الأفضل التمهّل قليلا والتفكير مليّا قبل وضع كلّ البيض في السلّة الأميركية!