لم يعد لدى إيران ما تقدّمه من مال لميليشياتها لا في العراق ولا في سوريا ولا في لبنان ولا في اليمن ولا في غزّة. ثمّة عالم جديد بدأت تظهر ملامحه.
 

ليس أصعب من إقناع الإيرانيين، أركان النظام، أنّ تصفية قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” غيّرت معطيات كثيرة في داخل “الجمهورية الإسلامية”، وفي المنطقة كلّها. كان قاسم سليماني القريب من “المرشد” علي خامنئي لاعبا أساسيا في غير مكان، خصوصا في العراق وسوريا ولبنان… واليمن. كان له أيضا دور أساسي في الأراضي الفلسطينية، لاسيّما في قطاع غزّة الذي استثمرت فيه إيران عبر “حماس” و”الجهاد الإسلامي”. فعلت ذلك من أجل التأكد من أن القطاع، الذي انسحبت منه إسرائيل صيف العام 2005، سيبقى سجنا في الهواء الطلق لمليوني فلسطيني…

يظلّ العراق المكان الأهمّ الذي ترك فيه قاسم سليماني فراغا يبدو واضحا أنّ من الصعب أن يجد من يملأه. ما يدلّ على ذلك الزيارة الأخيرة التي قام بها لبغداد إسماعيل قآني القائد الجديد لـ”فيلق القدس”. لم يستطع قآني تأدية أي دور من الأدوار التي كان يتولاها قاسم سليماني. لم يستطع ممارسة دور المفوّض السامي الإيراني القادر على فرض رئيس الوزراء الذي تريده إيران. لم يستطع حتّى وضع فيتو على شخصية معيّنة كما حصل في العام 2018 عندما منعت إيران حيدر العبادي من العودة إلى موقع رئيس الوزراء، وارتضت بأن يحل مكانه عادل عبدالمهدي.

هذه المرّة، ما يزال اسم عدنان الزرفي الذي تعترض عليه طهران مطروحا، على الرغم من أنّ هناك مآخذ كثيرة عليه من شخصيات عرفته عن كثب، ولم تظهر أي إعجاب بسلوكه الشخصي، خصوصا كمحافظ للنجف.

لم يتمكّن قآني، وقبله علي شمخاني الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي، من استعادة الدور الإيراني في العراق من جهة، ولعب دور المصلح بين العراقيين من جهة أخرى، على غرار ما كان يفعل قاسم سليماني. إلى إشعار آخر، صار الخيار بين الزرفي ومصطفى الكاظمي مدير جهاز المخابرات الذي لا يمكن اعتباره محسوبا على إيران، أقلّه بسبب العلاقات المتنوعة التي أقامها. بعض هذه العلاقات عربي، والبعض الآخر أميركي وأوروبي.

لا يمكن الربط بين الضعف الإيراني في العراق وغياب قاسم سليماني فقط. هناك أسباب أخرى لا يمكن تجاهلها تفسّر هذا الضعف الذي يمكن تسميته أزمة إيران في العراق. تعني هذه الأزمة، بين ما تعنيه، تراجعا سريعا للمشروع التوسّعي الإيراني في كلّ المنطقة. بدأ التراجع بمقتل قاسم سليماني في الأسبوع الأوّل من السنة الحالية في بغداد بُعيْد وصوله إلى مطارها. اصطاده الأميركيون من الجوّ بواسطة طائرة من دون طيّار كانت ترصد تحركاته. قتل مع قائد “فيلق القدس” أبومهدي المهندس، نائب قائد “الحشد الشعبي”، الذي كان يمثّل جانبا أساسيا من النفوذ الإيراني في العراق. مثلما أن لا بديل لإيران في المنطقة من قاسم سليماني، يتبيّن حاليا أن أبومهدي المهندس كان شخصا لا غنى عنه لإيران في العراق. يظلّ “الحشد الشعبي” هدفا إيرانيا بحدّ ذاته. إنّه الأداة التي تأمل إيران من خلالها السيطرة نهائيا على العراق، تماما مثلما أنّ “حزب الله” أداة إيرانية لوضع اليد على لبنان، وتحويله مجرّد مستعمرة تدور في الفلك الإيراني. من دون أبومهدي المهندس، ذي التاريخ الطويل في العمل لمصلحة إيران، فقدت “الجمهورية الإسلامية” شخصا محوريا. تؤكّد ذلك حال التجاذب التي تسود حاليا داخل “الحشد الشعبي” تحديدا، وفي أوساط الميليشيات المذهبية التابعة لإيران والتي تعمل في الداخل العراقي وتتناتش بقايا مؤسسات الدولة العراقية.

كشفت تصفية أبومهدي المهندس مدى أهميّته بالنسبة إلى إيران. لم يوجد، إلى الآن من يحلّ مكانه. إنه بالفعل خسارة إيرانية لا تعوض يمثلها رجل قاتل في صفوف الإيرانيين الجيش العراقي بين العامين 1980 و1988 واضعا الانتماء المذهبي فوق انتمائه لوطن اسمه العراق!

بات واضحا أنّه لن تقوم قيامة للمشروع التوسّعي الإيراني، لا في العراق ولا في غير العراق. ليست الروح العدوانية التي يظهرها الحوثيون في اليمن حاليا سوى دليل ضعف أكثر مما هي دليل قوّة. لا مستقبل للمشروع الحوثي حتّى لو استطاع هؤلاء بسط نفوذهم في اليمن كلّه. يستطيعون الاستفادة من ضعف “الشرعية” اليمنية، لكنّ السؤال الذي سيطرح نفسه، عاجلا أم آجلا، ما الذي يمكن لـ”أنصار الله” تقديمه إلى اليمنيين غير الضرائب العشوائية والخوّات… فضلا عن البؤس والجهل والشعارات الفارغة.

ما يمكن اعتباره أهمّ من تصفية قاسم سليماني هو هبوط أسعار النفط في وقت أدّت العقوبات الأميركية على إيران مفعولها. لم يعد لدى إيران ما تقدّمه من مال لميليشياتها لا في العراق ولا في سوريا ولا في لبنان ولا في اليمن ولا في غزّة. ثمّة عالم جديد بدأت تظهر ملامحه. ترسم هذه الملامح الأزمة الاقتصادية العالمية التي تسبّب بها وباء كورونا في ظلّ هبوط قياسي لأسعار النفط. سيجعل هذا الهبوط دولا عدّة تراجع حساباتها. بين هذه الدول إيران، المحرومة أصلا من تصدير النفط… والعراق نفسه. لم يعد لدى إيران ما تقدّمه للتابعين لها في العراق، ولم يعد لدى العراق الذي جفّ ضرعه المالي ما يقدّمه إلى إيران.

منعت إيران الزرفي من الوصول إلى موقع رئيس الوزراء أم لم تستطع ذلك. حلّ مصطفى الكاظمي مكان الزرفي أم لم يحلّ. ما بدأ باغتيال قاسم سليماني وأبومهدي المهندس، قبل نحو أربعة أشهر، أشبه بكرة ثلج تتدحرج. لم يعد لكلّ ما تقوم به إيران في العراق من طائل. تغيّرت قوانين اللعبة من أساسها. ما تغيّر على وجه الخصوص أن إدارة دونالد ترامب لم تعد مستعدة لاسترضاء إيران في العراق أو في غير العراق. ليس مستبعدا أن تتخذّ خطوات ذات طابع هجومي في العراق نفسه تتمّة لاغتيال سليماني والمهندس.

عندما أقدمت هذه الإدارة على خطوة التخلّص من قاسم سليماني وأبومهدي المهندس، لم تتصوّر أن ما قامت به ستكون له كلّ هذه النتائج، بما في ذلك انكشاف العجز الإيراني عن الردّ والفراغ الذي حصل في العراق. سيترك هذا الفراغ آثارا على الداخل الإيراني نفسه في وقت التقت عوامل عدّة عند نقطة واحدة. هذه النقطة هي الإفلاس الإيراني على كلّ صعيد. لن ينقذ إيران التي تمتلك حضارة عظيمة متابعة الهروب إلى خارج حدودها. ما ينقذها هو البدء بكف شرّها عن الشعوب العربية وغير العربية التي تعيش في المنطقة. في مقدمة هذه الشعوب الشعب العراقي الذي سيتوجب عليه مواجهة استحقاقات الفشل في إقامة نظام قابل للحياة في ضوء انهيار النظام السابق في مثل هذه الأيّام من العام 2003.