حصل الانقلاب في لبنان. الانقلاب تتويج لجهود دؤوبة مستمرّة منذ فترة طويلة، أي منذ نجاح حزب الله ومن خلفه إيران في تغيير طبيعة المجتمع الشيعي تمهيدا لتغيير طبيعة المجتمع اللبناني ككلّ.
 

ليس صحيحا أن لبنان على طريق انقلاب يطيح كلّيا نظامه الليبرالي ويغيّر طبيعة البلد ومجتمعه. الانقلاب حصل. الدليل على ذلك أن رئيس مجلس الوزراء حسّان دياب لا يتردّد في الكلام عن اقتطاع أموال من ودائع في المصارف. القضية مبدئية. من يقتطع أموالا من نسبة اثنين في المئة من أصحاب الودائع، إنّما يريد القضاء على النظام المصرفي برمته، أي القضاء على لبنان الذي عرفناه.

في النهاية من هم هؤلاء الذين يمتلكون مبالغ كبيرة في المصارف اللبنانية ولا تتجاوز نسبتهم الـ2 في المئة؟

هناك لبنانيون جمعوا أموالا كثيرة بعرق جبينهم. هناك من أمضى خمسين عاما في هذه الدولة الخليجية أو تلك، أو في أحد البلدان الأفريقية وعاد إلى لبنان ليمضي فيه آخر أيّامه ويتمتّع بثروته. هل يحقّ للدولة اللبنانية، التي أفلست لأسباب أكثر من معروفة، المسّ بأمواله، أي المسّ بعلّة وجود لبنان وبنظامه المصرفي الذي لم يعد موجودا؟ هناك عرب ائتمنوا المصارف اللبنانية على أموالهم. بين هؤلاء مساهمون كبار في هذه المصارف. من سيضمن في المستقبل أيّ مساعدة عربية للبنان حتّى لو وضعنا سعر برميل النفط جانبا. سيكون هناك ردّ فعل عربي أكثر من سلبي في حال المسّ بودائع من نوع معيّن، خصوصا ودائع المواطنين العرب في المصارف اللبنانية.

 

هناك بالطبع أشخاص يمتلكون ودائع كبيرة في مصارف لبنانية. هؤلاء جمعوا هذه المبالغ بطرق مشبوهة. معظمهم أخرج أمواله من لبنان. على الرغم من ذلك، هل سيكون هناك من يتجرّأ على سؤال أصحاب الودائع المشبوهة عن مصدر أموالهم وذلك قبل المسّ بها؟

مجرّد الكلام عن المسّ بأي وديعة من أيّ حجم كان هو انقلاب. المضحك المبكي أنّ الكلام عن المسّ بالودائع لا يقتصر على حسّان دياب. هناك وزير للاقتصاد في الحكومة، كان مديرا لأحد المصارف، لا يستوعب معنى المسّ بالودائع. إذا كان كلام هذا الوزير، عبر إحدى الفضائيات اللبنانية، دلّ على شيء، فهو يدلّ على أن الشهادات العليا لا تقدّم ولا تؤخّر، خصوصا عندما يتحدّث مثل هذا الشخص الذي يعتبر نفسه اختصاصيا عن وهَميْ الثروة الزراعية أو الصناعة في لبنان. ولكن ما العمل مع وزير تبيّن أنّه مجرّد وزير ينتمي إلى “التيار الوطني الحر” حيث لا تنفع الشهادات الجامعية في شيء، حتّى لو كانت هذه الشهادة من أرقى الجامعات الفرنسية.

حصل الانقلاب في لبنان. الانقلاب تتويج لجهود دؤوبة مستمرّة منذ فترة طويلة، أي منذ نجاح “حزب الله” ومن خلفه إيران في تغيير طبيعة المجتمع الشيعي تمهيدا لتغيير طبيعة المجتمع اللبناني ككلّ. في السنة 2016 أوصل “حزب الله” مرشّحه إلى موقع رئيس الجمهورية اللبنانية المخصّص للموارنة في لبنان. هذا يعني بكلّ بساطة أن الحزب صار معبرا إجباريّا إلى رئاسة الجمهورية. في ظلّ موازين القوى القائمة، بات على كلّ ماروني يطمح إلى أن يكون رئيسا للجمهورية أن يتعلّم من الدرس البليغ الذي أعطاه “حزب الله” للبنانيين. أغلق الحزب مجلس النواب سنتين ونصف سنة، قبل أن يسمح بانتخاب ميشال عون، أي مرشّحه، رئيسا للجمهورية.

في السنة 2020، بات “حزب الله” يقرّر من هو رئيس مجلس الوزراء السنّي. اختار الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، حسّان دياب ليكون في موقع رئيس مجلس الوزراء. لا يمتلك الرجل أي قاعدة شعبية من أيّ نوع، لا داخل طائفته ولا خارجها، إضافة إلى أنّه مشكوك في ما إذا كان يمتلك أي مؤهلات في أي مجال، باستثناء أنّه نائب رئيس الجامعة الأميركية في بيروت. قد يكون رئيس الجامعة الدكتور فضلو خوري من بين القلائل الذي يعرفون لماذا كان حسّان دياب في هذا الموقع في ظل الظروف المعقّدة التي يمر فيها لبنان ومعه الجامعة الأميركية التي تأسست في العام 1866.

لم يكن اغتيال رفيق الحريري، الذي أعاد الحياة إلى بيروت، في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005 سوى محطة على طريق الوصول إلى ما وصل إليه لبنان في السنة 2020. بدأ رحلة الانحدار نحو الإفلاس التي تُوّجت بالهجمة على المصارف في السنة 2000. في شهر أيّار – مايو من تلك السنة، انسحبت إسرائيل من الشريط الذي كانت تحتلّه في جنوب لبنان تنفيذا لقرار مجلس الأمن الرقم 425 الصادر في العام 1978. بقي “حزب الله” متمسّكا بسلاحه متذرعا بمزارع شبعا، وهي أرض احتلتها إسرائيل عندما كانت تسيطر عليها سوريا في حرب 1967 وتندرج تحت القرار الرقم 242 الصادر في 1967، والذي يعتبر لبنان أنّ لا علاقة له به. أخذت إيران البلد وأهله رهينة. لم يكن تفجير موكب رفيق الحريري سوى محطة على طريق إتمام الانقلاب الذي حصل في لبنان، وبدأت نتائجه تظهر حاليا على ارض الواقع.

الأكيد أنّ هناك قوى ستقاوم الانقلاب. هذه القوى الممثلة بسعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع لعبت دورها في وصول ميشال عون إلى قصر بعبدا من زاوية أن لبنان برئيس للجمهورية أفضل من بقائه من دون رئيس، وأن ميشال عون سيلعب دورا متوازنا. كان ذلك الرهان في غير محلّه، علما أن في الإمكان تبريره لألف سبب وسبب لو كان رئيس الجمهورية الحالي يحفظ جميلا لأحد من جهة، ولولا تحوّله أسير عقدة إيصال صهره جبران باسيل إلى رئاسة الجمهورية من جهة أخرى.

لا يتعلّق الموضوع حاليا بما إذا كان لبنان سيكون تحت قبضة نظام أمني، على الطريقة البعثية أو الإيرانية، لا فارق. الموضوع يختزله سؤال واحد: هل لا يزال في الإمكان إنقاذ لبنان في ظلّ الإصرار على استهداف النظام المصرفي الذي جعل من بيروت مصرف العرب الهاربين من الانقلابات العسكرية في بلدانهم، وهي انقلابات أقلّ ما يمكن قوله إنّها أساس المأساة التي تعيش في ظلّها المنطقة منذ سنوات طويلة.

لعلّ أسوأ ما في الأمر أنّ ليس بين العرب من يريد مساعدة لبنان. حتّى لو توفّر من يريد مساعدته، لم تعد الإمكانات العربية كما كانت عليه في الماضي بسبب سعر برميل النفط. أمّا إيران فمعروف ما الذي لديها تصدّره للبنان، في حين أنّ الانقلاب الأكبر كان في واشنطن حيث انتصرت مدرسة تدعو إلى ترك لبنان لمصيره. فمن يريد أن يجد من يساعده عليه أن يساعد نفسه أوّلا. ليس في لبنان مسؤول يفهم حتّى معنى أن يكون لبنان تابعا لإيران، والنتائج المترتبة على ذلك… عربيّا ودوليّا.