يلفظ لبنان في السنة 2020 أنفاسه الأخيرة. أخطر ما في الأمر أنّ حزب الله، أي إيران، بات يقرّر من هو رئيس جمهوريته الماروني، ومن هو رئيس الحكومة السنّي.
 

قبل 45 عاما، في مثل هذا اليوم من العام 1975، استفاق لبنان على أنّه في حال حرب. كثيرون رفضوا تصديق ذلك… إلى أن تبيّن أن بيروت التي عرفوها، بيروت التي تضمّ أناسا من كلّ الأديان والجنسيات يعيشون في وئام تام، لم تعد مدينتهم!

كانت حرب لبنان حربا أهليّة، لكنّها كانت أيضا حرب الآخرين على أرض لبنان. في الثالث عشر من نيسان – أبريل 1975، وقعت حادثة “بوسطة عين الرمّانة”. كمن يومذاك مسلّحون ينتمون لإحدى الميليشيات المسيحية وآخرون من أبناء المنطقة لأوتوبيس كان ينقل مسلّحين فلسطينيين، من “جبهة التحرير العربيّة” الموالية للعراق، لدى دخوله حيّ عين الرمّانة المسيحي غير البعيد عن وسط بيروت. قُتلَ معظم المسلّحين الفلسطينيين الذين كانوا في طريق عودتهم من مخيّم فلسطيني إلى مخيّم آخر يقيمون فيه.

ليس معروفا إلى اليوم ما الذي دفع هؤلاء المسلّحين الفلسطينيين إلى المرور بعين الرّمانة بعد وقت قليل من وقوع جريمة فيه ذهب ضحيتها أحد المنتمين إلى حزب الكتائب اللبنانية (المسيحي). لكنّ الأكيد أن الحرب اللبنانية بدأت في ذلك اليوم، ولا تزال مستمرّة بطرق أخرى.

في الواقع، بدأت الحرب اللبنانية في خريف العام 1969 بعد توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي يعني تخلي لبنان عن جزء من أراضيه لمسلّحي منظمة التحرير الفلسطينية كي يشنّوا منها عمليات تستهدف إسرائيل. إلى الآن، يصعب فهم كيف يمكن للبنان الإقدام على مثل هذه الخطوة التي لا يمكن تفسيرها سوى بالرغبة في الانتحار. لكنّ الثابت أن معظم المسؤولين اللبنانيين، وقتذاك، سقطوا في الفخّ الذي نصبوه لأنفسهم، أو الذي نُصب لهم. من الصعب تبرير موقف جمال عبدالناصر الذي رعى الاتفاق الذي وقّعه ياسر عرفات عن الجانب الفلسطيني من جهة، وقائد الجيش اللبناني إميل البستاني، الماروني الطامح إلى رئاسة الجمهورية، من جهة أخرى.

 

مرّت الحرب اللبنانية المستمرّة بمراحل عدّة. كانت هناك حرب السنتين (1975 – 1976)، ثم دخول الجيش السوري بغطاء عربي ودولي وإسرائيلي من أجل ضبط الانفلات الفلسطيني، وهو انفلات صار بعد ذلك برعاية سورية، خصوصا بعد رحلة أنور السادات إلى القدس في تشرين الثاني – نوفمبر 1977، ثمّ توقيع اتفاقي كامب ديفيد في أيلول – سبتمبر 1978، وصولا إلى معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في آذار – مارس 1979. صار لبنان ورقة سورية بعدما أصبحت له منافع عدّة. من بين هذه المنافع الإمساك السوري بالورقة الفلسطينية أيضا. سهّل ذلك إصرار ياسر عرفات على امتلاك وجود مسلّح في لبنان، حتّى لو كان هذا الوجود مرتبطا بتلبية رغبات حافظ الأسد الذي لم يتوقف عن وصف “القرار الفلسطيني المستقل” بأنّه مجرّد “بدعة”.

من بين المحطات الأساسية في الحرب اللبنانية الاجتياح الإسرائيلي صيف العام 1982، وهو اجتياح تُوّج بخروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان تمهيدا لحلول الوجود المسلّح الإيراني مكانهم… برعاية سورية أيضا. أدار حافظ الأسد اللعبة السياسية والعسكرية في لبنان ببراعة. استطاع، في كلّ وقت، الاستفادة من أي خطأ يرتكبه الأطراف اللبنانيون، خصوصا بعد تخلّصه من الزعيم الدرزي كمال جنبلاط. وما أكثر هذه الأخطاء اللبنانية التي تراكمت في مرحلة ما قبل الاجتياح الإسرائيلي وما بعده، وهي مرحلة شهدت انتخاب بشير الجميّل رئيسا للجمهورية، ثمّ اغتياله عن طريق عميل سوري.

لم يتردّد حافظ الأسد في تصفية خصومه. كان هدفه في غاية الوضوح ويتمثل في بقاء لبنان ورقة سورية. هناك خطّ لم يحد عنه في أي وقت. يقوم هذا الخط على إضعاف المسيحيين كي يكونوا في كلّ وقت تحت رحمته. لذلك كان لا بد من التخلّص من بشير الجميّل، ثم من رينيه معوّض الذي انتخب رئيسا للجمهورية بعد توقيع اتفاق الطائف في خريف العام 1989. كانت الانقسامات المسيحية الحليف الأوّل لحافظ الأسد الذي استغلّ إلى أبعد حدود وجود قائد الجيش ميشال عون في قصر بعبدا، كرئيس لحكومة موقتة، بين أيلول – سبتمبر 1988 وتشرين الأوّل – أكتوبر 1990 كي يضع لبنان كلّه تحت الوصاية السورية. أقدم ميشال عون، على ما رفضه الرئيس الجميل دائما في عهده بين 1982 و1988، عندما دخل في مواجهة مباشرة مع “القوات اللبنانية”.

إضافة إلى التركيز على الانقسامات المسيحية، ركّز النظام السوري على الزعامات السنّية. اغتيل المفتي حسن خالد جسديا، واغتيل الرئيسان صائب سلام وتقيّ الدين الصلح سياسيا. ولمّا حاول رفيق الحريري إعادة لبنان إلى خارطة المنطقة وإعادة الحياة إلى بيروت تعرّض لعملية تفجير في 2005 تبيّن في نتيجتها أن ليس مسموحا للبنان الاستمرار في المقاومة، وأن عليه الخضوع لما بعد انتهاء الوصاية السورية وبداية الوصاية الإيرانية.

لا يزال لبنان يدفع إلى اليوم ثمن اتفاق القاهرة، وثمن القضاء على المحاولة الأخيرة من أجل إنقاذه، وهي مرحلة قادها رفيق الحريري ودفع ثمنها غاليا. دفع ثمنها وصولا إلى يوم لم يعد فيه لبنان على علاقة بلبنان الذي عرفناه قبل الثالث عشر من نيسان – أبريل 1975.

ما لم يتحقّق في ذلك اليوم، يتحقّق حاليا بسبب الحسابات الخاطئة لبشّار الأسد الذي لم يدرك معنى تغطية اغتيال رفيق الحريري، وأن ثمن تغطيته الاغتيال المعروف من نفّذه سيكلّفه الخروج من لبنان عسكريا وأمنيا…

بعد 45 عاما على “بوسطة عين الرمّانة”، كما يقول اللبنانيون، يلفظ لبنان في السنة 2020 أنفاسه الأخيرة. أخطر ما في الأمر أنّ “حزب الله”، أي إيران، بات يقرّر من هو رئيس جمهوريته الماروني، ومن هو رئيس الحكومة السنّي. فوق ذلك، لم يعد لبنان يهمّ أحدا. ليس هناك أي طرف عربي مهتمّ بما يحل بلبنان الذي أصبح بلدا مفلسا في ضوء انهيار النظام المصرفي فيه. لم يعد في واشنطن من يسأل هل يؤثر الوضع في لبنان على الاستقرار في المنطقة؟

هناك لبنانيون لا يريدون أخذ العلم بما حلّ ببلدهم الذي لم يعد فيه مكان لشخص يمتلك مؤهلات حقيقية بمواصفات عالمية. بات على كل لبناني يريد أن يجد لنفسه مكانا تحت الشمس الهجرة إلى أوروبا أو أميركا. أسّس اتفاق القاهرة في 1969 لانفجار 1975. أسّست التغييرات التي تشهدها المنطقة، بما في ذلك انحياز لبنان لإيران في ظلّ هبوط أسعار النفط لعزلة عربية ودولية للبلد.

إنّها المرّة الأولى في تاريخ البلد التي تظهر فيها نتائج حرب مستمرّة منذ 45 عاما فقد خلالها لبنان أيّ توازن على الصعيد الداخلي في غياب المسيحيين والسنّة والدروز، وفي ظل صعود “حزب الله” الذي أقصى ما يستطيع أن يفعله هو تحويل بيروت إلى ضاحية فقيرة من ضواحي طهران.