تكمن مشكلة الجزائر الآنيّة في التوفيق بين العناد من جهة، والمنطق والحكمة من جهة أخرى. كيف ردم الهوة بين منهجين يوجد تناقض كامل بينهما، على كل المستويات، في غياب شخصية قيادية تتمتع بالحكمة والروية وتؤمّن قاسما مشتركا بين المؤسسة العسكرية والحراك الشعبي؟
 

دخلت الجزائر مرحلة جديدة مع مرور 29 أسبوعا على الحراك الشعبي الذي أدّى، بين ما أدّى إليه، إلى حرمان الحلقة الضيقة المحيطة بعبدالعزيز بوتفليقة من ولاية رئاسية خامسة. كانت هذه الحلقة التي حكمت الجزائر منذ صيف العام 2013 تاريخ تعرّض الرئيس الجزائري المستقيل لجلطة دماغية جعلت منه رجلا مقعدا، تسعى إلى ربح الوقت ليس إلّا. كان همّها محصورا في إدارة شؤون البلد بغطاء من رجل مريض على كرسي نقّال لا يستطيع توجيه خطاب إلى شعبه. لم تنجح الحلقة في إيجاد خليفة لبوتفليقة يؤمّنُ لأفرادها الضمانات المطلوبة لكلّ منهم بعد كلّ الارتكابات المالية وغير المالية التي حصلت بين 2013 و2019، وصولا إلى قرار ترشيح الرجل المريض والمقعد لولاية رئاسية خامسة.

 

وضع الحراك الشعبي، بتفاهم ضمني مع المؤسسة العسكرية، حدّا لمهزلة استمرّت أكثر مما يجب في بلد رفض فيه النظام القائم منذ العام 1965، تاريخ انقلاب هواري بومدين، القيام بأي إصلاحات في العمق تعالج الأزمات المستعصية التي تعاني منها الجزائر منذ استقلالها.

 

ما الذي يجري حاليا في الجزائر؟ ولماذا كلّ هذا الإصرار من ممثل المؤسسة العسكرية على إجراء انتخابات رئاسية في القريب العاجل؟ لماذا يمكن الكلام عن مرحلة جديدة؟ الجواب أنّ الجزائر دخلت مرحلة الرهان على أن الحراك الشعبي صار منهكا، وأنّ في استطاعة المؤسسة العسكرية الآن قطف ثمار انضمامها إلى المطالبين بقطع الطريق على ولاية خامسة لبوتفليقة.

 

تكمن مشكلة الحراك الشعبي في أنّه لم يصبح مُنهكا بعد، لكنّه لم يستطع في المقابل تشكيل قيادة سياسية تتكلّم باسمه وتعرض مطالبه بوضوح. ثمة حاجة إلى شخصية قيادية تتجاوز الكلام العام عن تغيير النظام ودستور جديد قبل الانتخابات الرئاسية… هذا إذا كان مطلوبا بالفعل الدخول في حوار أو جدل مفيد مع المؤسسة العسكرية ممثلة بأحمد قايد صالح الذي تكمن أهمّيته في أن لا طموحات رئاسية لديه بعدما تجاوز الثمانين من العمر بقليل.

 

تبيّن بعد نصف سنة وبضعة أسابيع على انطلاق الحراك الشعبي في الجزائر أن الحراك مستمرّ ولكن من دون قيادة قادرة على فرض نفسها من جهة، وأن المؤسسة العسكرية ما زالت صاحبة القرار في البلد من جهة أخرى.

 

بدل استمرار الانسداد السياسي القائم منذ فترة طويلة، ليس ما يمنع البحث عن مخرج بغية الوصول إلى مرحلة يمكن فيها البحث في العمق في المشاكل الضخمة والعميقة التي تعاني منها الجزائر. في مقدّم هذه المشاكل الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي يهدّد بانفجار كبير في المستقبل، إضافة بالطبع إلى عقم النظام القائم الذي لم يكن في يوم من الأيّام سوى نظام قمعي يؤمن بشراء المواطن عن طريق قسم من الأموال التي تأتي من بيع النفط والغاز. أقام النظام الجزائري نظاما ريْعيّا ذا وجهين. الأوّل استرضاء المواطن عبر بعض التقديمات الاجتماعية، والآخر تمكّن مجموعات معيّنة تضم ضباطا ورجال أعمال وموظفين كبارا من جمع ثروات كبيرة بطرق أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها ملتوية.

 

تبدو الجزائر في حاجة إلى رئيس جديد ودستور جديد ونظام جديد، ولكن من يستطيع تأمين ذلك من دون هزيمة للحراك الشعبي أو للمؤسسة العسكرية التي استطاعت المحافظة على الجمهورية في “سنوات الجمر” بين 1988 و1998… وصولا إلى انتخاب عبدالعزيز بوتفليقة في ربيع 1999 بغية ضمان العودة إلى حال من السلم الأهلي نجح الرجل في تأمينها قبل مرضه وخطف شقيقه سعيد وآخرين رئاسة الجمهورية؟

 

ليس سرّا أن الجزائريين معروفون بعنادهم. هذا العناد كلّف الكثير في الماضي وما زال يكلّفهم الكثير. يكلّفهم، على سبيل المثال وليس الحصر، بقاء الحدود مغلقة مع المغرب منذ العام 1994 وذلك على الرغم من كلّ المبادرات المغربية من أجل إعادة فتح هذه الحدود. مثل هذا العناد مبرّر جزائريا لمجرّد أنّ إغلاق الحدود يمكن أن يسبب بعض الأذى للمغرب. يكفي أنّه يتسبب بمثل هذا الأذى كي تبقى الحدود مغلقة، علما أن المصلحة الأكبر في فتحها هي للجزائريين. هذا عقل يهدّم ولا يبني. هذا العقل الذي تحكّم بالنظام الجزائري هو العقل المطلوب تغييره، وهو العقل الذي يسعى الحراك الشعبي إلى التخلّص منه بغية نقل البلد إلى مرحلة جديدة تكون أبعد ما تكون عن عُقد الماضي.

 

لا يمتلك أي مسؤول جزائري جرأة الخروج من العناد والتصالح مع الواقع ومع كلّ ما هو حضاري في هذا العالم. هذا الجمود الذي يعبّر عنه العناد من تركة نظام هواري بومدين الذي أسّس لـ”سنوات الجمر”. في مقابل هذا العناد الرسمي هناك أيضا وعي شعبي لضرورة تفادي أي مواجهات في الشارع، وذلك بسبب الخوف من تجربة “سنوات الجمر” التي كادت أن تقضي على ما بقي من مؤسسات الدولة. لعب هذا الوعي دورا كبيرا في اعتماد لغة المنطق والحكمة وتفادي أي انفجار في الشارع. في الواقع، أدّت لغة المنطق والحكمة إلى تفادي الجزائر السقوط في فخّ الفوضى التي تسبب بها “الربيع العربي” والتي قضت على بلد مثل ليبيا مثلا لم يعد معروفا هل ستقوم له قيامة يوما.

 

تكمن مشكلة الجزائر الآنيّة في التوفيق بين العناد من جهة، والمنطق والحكمة من جهة أخرى. كيف ردم الهوة بين منهجين يوجد تناقض كامل بينهما، على كل المستويات، في غياب شخصية قيادية تتمتع بالحكمة والروية وتؤمّن قاسما مشتركا بين المؤسسة العسكرية والحراك الشعبي؟

 

الأكيد أنه لا ينقص الجزائر رجال يتمتعون بالحكمة والخبرة. لا يمكن إلا الاعتراف بأنّ عبدالعزيز بوتفليقة استطاع في مرحلة معيّنة إعادة الأمل إلى الجزائريين وذلك في السنوات العشر الأولى من عهده. لكنّ بوتفليقة بقي، بدوره، أسير العناد. بقي أسير نظام هواري بومدين الذي أراد تقمّص شخصيته في ظروف مختلفة كلّيا عن ستينات وسبعينات القرن الماضي.

 

من الواضح أنّ تغييرا طرأ على المؤسسة العسكرية، أي على تفكير الذين يتحكمون بها. هل هذا كاف لإيجاد لغة تفاهم مع الحراك الشعبي الذي صارت الكرة في ملعبه؟

 

مثلما استطاع الحراك الصمود كلّ هذا الوقت، يفترض به تشكيل قيادة وإيجاد شخص يتحدّث باسمه تمهيدا لحصول نقلة نوعية. تتمثل هذه النقلة بالتوصل إلى اتفاق على خطوط عريضة للتغيير المفترض أن تشهده الجزائر اليوم قبل غد… تفاديا لكارثة أخرى تبدو منطقة شمال إفريقيا في غنى عنها!