متماثلاً بأسلوب رواية « قصة موت معلن» لماركيز، يجمهر الكاتب الأفغاني عتيق رحيمي متاهات السرد الوصفي بسيرة غيرية ومونولوج ذاتي داخلي، لينكبّ في تفصيل الحدث المفضي إلى الموت الحتمي، حيث العدم يشبه الخيبة، والسكوت رنينٌ في عنق الحقيقة المرّة.
 

يسرد رحيمي علينا قصة بسيطة، أرضها صلبة وسماؤها عصيان، وهي على بساطتها تبدو متماسكة، جيّاشة بالإنسانية التي تقحم بمفاتيحها تمرّد الإنسان.

أنفاس الغضب

هي قصة جدُّ يجرُّ حفيده الصغير الذي فقد سمعه بيد، وأحزانه التي تبخّرت في أنفاس الغضب الذي لا صوت له بيد أخرى. هذا المشهد البصري الحسّي المتخيّل ينشقّ من ضلع الإفتتان الوصفي المتدرّج من الجزئي إلى الكلي، لتفعيل الإسقاط الفني والسياسي الذي تبلّل من الدم النازف لجرح الوطن، ولتحليلٍ سيكولوجي دراماتيكي عاصف على طريقة دوستويفسكي.

شحناتٌ من الفزغ والوجع والرحيل والبعد والبحث عن شيءٍ مفقود، تعتري أواصر الحبكة. الجدّ قد هرع مع حفيده بعد أن دخلت الفصائل السوفياتية المسلحّة إلى قريته فدمّرتها تدميراً شاملاً وقتلت زوجته وزوجة ابنه الكبير وأطفالها وعائلة ابنه الثاني، ولم يبقَ له إلا حفيده الصغير ياسين من ابنه الكبير مراد، الذي فقد سمعه من صوت الإنفجارات الهائلة المدوية.

مأساة الاحتلال

يوجز هنا الكاتب مأساة الاحتلال السوفياتي في وطنه أفغانستان في مجزرة واحدة وقصة قصيرة، تروي حكاية جد يجذب على كاهله أطناناً من العذاب والألم، مصطحباً حفيده الصغير ياسين في رحلةٍ لمنجم الفحم الذي يعمل فيه والده مراد، حتى يحيطه علماً بالمذبحة الشنيعة التي اقترفها الأعداء في قريتهم وعائلتهم، فيتّكئ على درابزين الجسر الفاصل بين مكانه في الحدود الخارجية والمنجم، ويسلب قلب القارئ بإنصاته للهنيهات الفاصلة بين الحقيقة والخيال، حيث يهذي متجرّعاً صدمته الجائرة تارة ويفيق متكوّراً بناب الحقيقة تارة، ويودع حفيده ياسين أمانة عند صاحب الحانوت الواقع إلى جانب الجسر ريثما يستقلّ سيارة أجرة مارّة بعد انتظار ساعاتٍ طوال يعيشها معه المتلقي، ليتوجّه إلى المنجم الذي يضمّ ابنه الحبيب.

تأخذ صاعقة الخيبة الجد، عندما يلمّ علماً من رئيس عمال المنجم السوفياتي، بأنّ ولده مراد على دراية كاملة بالمجزرة التي اقترفها السوفيات، ورغم هذا اتّخذ قراراً بعدم العودة إلى القرية ظانّاً منه بأنّ أباه وابنه ياسين قد قُتلا أيضاً.

يدفن موتاه

كان الجدّ يخال بأنّه ذاهبٌ ليغرس خنجراً في صدر ابنه، فإذا به يُفاجأ بأنّ الخنجر قد أُغمد في صدره هو، ولذا، يرحل عن المنجم دون أن يرى ابنه، ولكنّ أحد العمّال يلحق به هامساً في أذنه بأنّ مراد قد أُجبر على البقاء في المنجم، وأنّه خُدع بحقائق كثيرة، منها أنّ الجميع قد أسلموا الروح ولا فائدة ترجى من ذهابه، فيجيبه الجد بأنّه ينتظر ولده هناك في القرية الصغيرة الوادعة بعد أن يستعيد حفيده ياسين من صاحب الحانوت، ويعود إليها، كي يدفن موتاه الذين ماتوا ظلماً وإجحافاً.

عالم متحرّك

رواية «أرض ورماد»، هي عالمٌ متحرّكٌ متداخل الأبعاد، متكاثف النبرات القاتمة التي ترتجّ من عين الأحزان، حيث الصوت يكاد يكون مخفيّاً، باستثناء الجد الذي يقوم برحلة الصوت الأخير مع حفيده الطفل ياسين، فنتتبّع خطواته، بسلوكه المزاجي والمجازي، الفاصل الواصل، السارد الوارد في دنيا الله الواسعة.

وعلى طريقة ماركيز، كانت رحلة الجد مذلّة له ولكنّها مدلّلة بعين القارئ الذي يأخذ بمجامع لبّه، ويأسره بثباته وإيمانه وتقديسه لحقيقة الموت والخيار الأخير.

عتيق رحيمي كاتبٌ نال جائزة الغونكور الفرنسية عن جدارة، وخرج بفنِّ الصوت في رواياته، الذي يشبه أصداء المايكروفون المعلّق على رقاب الممثلين، يصدح بالتعابير الإنسانيّة، ويعاير الظلم ويسلّط عليه مجهر الحق الساطع.