من بين الرسائل المتعدّدة والمباشرة التي أطلقها الرئيس المكلّف سعد الحريري في مؤتمر «بيت الوسط» كان واضحاً إقفالُه الطريق نهائياً على إحتمالٍ، ولو ضئيل، بـ «خطفِ» سنّيٍ آخر من حصته الرباعية وذلك بإعلانه للمرة الاولى رسمياً إتفاقه مع الرئيس نجيب ميقاتي على وزير سنّي.
 

لافتاً جداً كان الصمتُ المعبّر لميقاتي طوال أشهر تأليف الحكومة.

«دولة الرئيس» الذي بقي حتى ما بعد عودة الحريري من إقامته القسرية في الخارج، مُدرَجاً على لائحة خصوم تيار «المستقبل» شكّل، منذ تكليف الحريري تأليف حكومته، جزءاً من فريق «التعبئة» السنّية في معركة الدفاع عن صلاحيات الرئاسة الثالثة عبر حجزه مقعداً في «نادي» رؤساء الحكومات السابقين المتنقّلين بين دار الفتوى و«بيت الوسط».

أحد أهمّ المؤشرات الملموسة التي طبعت بدايات التقارب بين الحريري وميقاتي اللقاء الذي جمعهما على مائدة العشاء في منزل الرئيس تمام سلام في أيار 2016 والذي سبق إجراءَ الانتخابات البلدية.

هذا الواقع لم يُلغِ تحميل الحريري لاحقاً، حتى موعد الانتخابات النيابية، ميقاتي مسؤوليّة المشارَكة في «جوقة» تعميم الإحباط لدى الشارع السنّي على خلفية «التنازلات» التي اتُهم الحريري بتقديمها ربطاً بـ «شروط» التسوية الرئاسية.

وصل الأمر الى حدّ مخاطبة ميقاتي للحريري قائلاً: «كفى يا سعد»، وذلك على خلفية ما اعتبره رئيس الحكومة الأسبق مسّاً بمقام رئيس مجلس الوزراء وذلك حين غادر رئيس الجمهورية قاعة مجلس الوزراء في بعبدا طالباً من رئيس الحكومة ترؤسَ الجلسة.

«التنويه» بخطوة عون من جانب الحريري إعتبرها ميقاتي «خطوة دستورية طبيعية لا تستحق الاغتباط»، فما كان من الحريري الى أن عاجله بتغريدة: «ميقاتي لم يفهم حجمَ الرسالة التي حصلت في بعبدا تجاه رئاسة مجلس الوزراء، فليت النجيب من الإشارة يفهم. عجيب هذا الزمن ومؤسف. الله يعين!».

لكنّ الزمن نفسَه عاد ورسم مساراً مغايراً لعلاقة الرجلين. إنها السياسة وحسابات طرابلس والمصالح المتقاطعة و«الحاجة» المتبادَلة بعضاً الى بعض.

من ضمن سلسلة الاستشارات النيابية كشف الرئيس المكلّف في لقائه مع كتلة «الوسط المستقبل» عن معيارٍ سيعتمده خلال تأليف الحكومة مفاده «وزير لكل أربعة نواب»، وهو ما ينطبق على نائب طرابلس الذي يرأس كتلةً تضمّ النواب جان عبيد ونقولا نحاس وعلي درويش.

لاحقاً وخلال مأدبة عشاء أقامها ميقاتي على شرف الحريري ورؤساء الحكومات السابقين في منزله تمّ تأكيدُ الاتّفاق على تقديم ميقاتي خمسة أسماء لشخصيات سنّية طرابلسية مرشّحة للتوزير ليختار الحريري أحدها.

يومها لم تكن العقدةُ السنّية مطروحةً في الشكل الصدامي الذي هي عليه اليوم. بقي الاتّفاق قيد المجالس الضيقة الى حين إعلان ميقاتي خلال إجتماع في طرابلس قبل نحو ثلاثة أسابيع أنه أودع الحريري لائحة أسماء مرشحين للتوزير على أن يكون القرار النهائي للرئيس المكلّف إنسجاماً مع صلاحياته الدستورية.

يقول ميقاتي لـ«الجمهورية»: «حصل كلامٌ بيني وبين الرئيس المكلّف خلال الاستشارات النيابية وقلتُ له إنّ كتلتي متنوّعة طائفياً، وقد صارحني بأنه ستكون هناك صعوبة في تمثيل كتلة «الوسط المستقل» بوزير مسيحي، ثم حصل تواصل في ما بيننا حول الأسماء السنّية، وتناقشنا بإيجابية في مسألة التعاون في الحكومة المقبلة».

وفيما يشدّد ميقاتي «على الثوابت الوطنية والدستور وإتفاق الطائف»، يؤكّد أنّ «الاستنسابية في إختيار الاسم تعود للرئيس المكلف من ضمن صلاحياته ومن منطلق ضرورة عدم وضع شروط وفرض إملاءات عليه أو تقييده بأيّ مطلب».

ويضيف: «لا يجوز التعاملُ مع الرئيس المكلّف بمنطق المحاسبة. وله أن يؤلّف فريق عمله في الحكومة بالاتفاق مع رئيس الجمهورية الذي له دوره في التأكّد من أن يكون فريق العمل من أصحاب الكفاية ومشهوداً لأعضائه بالمناقبية، أما اليوم فنجد أنفسَنا أمام أطراف يريد كل منها تأليف حكومة وفق حساباته بحيث تحوّلت المسألة نوعاً من نظام «المقاطعجية» وهذا أمر مرفوض، فالحكومات لم تكن تؤلّف على هذا المنوال».

وهل طُويت صفحة المواجهة القاسية بينه وبين الحريري؟ يردّ ميقاتي: «نتصرف في السياسة على أساس أنها فنّ المتحرّك. فطالما الحريري يمسك بزمام الأمور ويطبّق الدستور وإتفاق الطائف ويصون مركزه في إعتبار رئاسة الحكومة هي نقطة التوازن نحن معه». ويضيف: «نحن لا نتصرّف على أساس «عنزة ولو طارت» فالموقف رهن بالأداء والتعاون».

ويقول ميقاتي: «لا نحسد الرئيس المكلّف على موقفه، لكننا الى جانبه وداعمون له في إنجاح مهمته. فليست المسألة «قوم لأقعد محلّك»، بل الأساس العمل على نهوض البلد».

ويجزم ميقاتي «أنّ الإسم لم يُحسَم والمسألة لم تنتهِ بعد. وللحريري الحرية في اختيار الإسم والحقيبة ولديّ ثقة بخياره».

وهل يقبل بمقعد «وزير دولة»؟ يجيب ميقاتي: «الأساس إنجاح الحكومة، أما اختيار الإسم أو الحقيبة فهذا منوط برئيس الحكومة المكلّف وفق صلاحيّاته».

ويؤكد أنّ «الوزير الذي سيمثّل كتلة «الوسط المستقل» ستكون يده ممدودة للجميع، وسيكون معنيّاً بكل المشاريع الإصلاحية في الحكومة».

وهل ستكون مرجعيّة «وزير ميقاتي» الحريري أم رئيس «تيار العزم»؟ يردّ ميقاتي: «سيلتقي وزيرُنا مع أيِّ وزير أو كتلة حيثما تطرح الملفات الوطنية نفسها بمعايير الشفافية والإصلاح، وهذا هو المعيار الأساس لمشاركته أو تصويته، مع إقتناعي أنّ الحريري سيكون واضحاً وشفافاً، خصوصاً في ملفات الفساد».

وفي السياق نفسه تنفي مصادر ميقاتي «وجود أيّ رابط بين الخلاف القائم اليوم حول توزير سنّي من كتلة «النواب السنّة المستقلين» وبين إتّفاق الحريري وميقاتي السابق، لافتةً الى «إحترام ميقاتي وتقديره أعضاء «اللقاء التشاوري»، وإذا كانوا يعتبرون أنّ لهم الحق في التمثّل داخل الحكومة فهذا أمر منفصل تماماً عن «حالة» الوزير السنّي الذي سيمثل ميقاتي في الحكومة».

هكذا، وباكراً جداً، حجز ميقاتي وزيراً من ضمن «الحصة الرباعية» السنّية للرئيس المكلّف مضافاً اليها موقع رئاسة الحكومة والسنّي السادس المتفق عليه، ضمن منطق المبادلة، بين عون والحريري.

وقد إستبق الحريري بذلك «المعركة» على مقعد «الممانعة» السنّي محصّناً نفسه من أيّ تنازل موجع ضمن بيئته، خصوصاً أنّ «حزب الله» كان أبلغ الى الرئيس المكلّف منذ البداية مطلبه توزير أحد النواب الستة «المستقلّين».

عملياً، سيدخل الحريري الحكومة بثلاثة وزراء سنّة «خالصين» له، لم تعد هناك أيّ إمكانية للتفاوض على سحب أحد منهم لمصلحة الكتلة السداسية السنّية.

تحفُّظ الحريري عن الكشف عن إسم الوزير المحسوب على ميقاتي ضمن فريقه، لا يقلّ عن تحفُّظه عن أسماء وزرائه الثلاثة، لكنّ المؤكّد أن لا تراجع عن هذه الخطوة طالما أنّ إعلانها كان من «بيت الوسط» ومن «منبر» الردّ المباشر على «تثبيت» الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله «حقّ» السنّة المعارضين بمقعد وزاري.

هكذا ستتمثّل طرابلس بوزيرَين. الأوّل هو النائب السابق مصطفى علوش فيما تفيد معلومات أنّ «وزير ميقاتي» سيكون من التكنوقراط وأصحاب الاختصاص وقد سمّاه ميقاتي بالتوافق مع الرئيس المكلّف.

وفي المقابل يعوّل قريبون من ميقاتي على «تحصّن وزير «الكتلة» بحضور سياسي وشعبي في طرابلس ومطّلع على حاجاتها ومشكلاتها بمقدار كبير ومدرك توازنات اللعبة السياسية والشمالية خصوصاً، وحاضر الى جانب رئيس الحكومة كإبن أكبر مدينة سنّية».

وبحسب مواكبين للعلاقة بين الحريري وميقاتي فإنّ الرئيس المكلّف صاحب مصلحة أساسية في التعاطي مع رئيس «تيار العزم» حليفاً من خارج عباءة «المستقبل» خصوصاً أنّ الحريري يدرك أنّ الـ 21 الف صوت تفضيلي التي حصدها ميقاتي في دائرة الشمال الثانية يستحيل القفز فوقها، أو التعاطي مع «صاحبها» من منطلق الخصومة في بقعة يحتاج فيها تيار «المستقبل» الى «تنشيط» شعبيّته، إما من خلال «سَحب» قواعد موالية لخصومه كـ «حالة» أشرف ريفي أو إستمالة لاعبين كباراً على الساحة الطرابلسية كميقاتي.

لكنّ أحداً لا يستطيع منذ الآن رسم مقاربة واضحة لمآل هذا التطوّر النوعي في العلاقة بين الطرفين طالما أنّ ميقاتي لا يزال مرشّحاً دائماً لرئاسة الحكومة.