«حطّوا على عينّا وأضربوا نهار!» بصريح العبارة هتف محامو بيروت لنقابتهم خلال اعتصامهم أمس، بعدما انتظروا بفارغ الصبر ما ستُعلنه من مواقف «بتفِشّ الخِلق» تجاه كباشهم مع بعض القضاة وما يتعرضون له من تجاوزات في الآونة الاخيرة. لذا، لم ينتظروا أن ينهي النقيب أندريه الشدياق دعوته لهم «للاكتفاء بالاعتصام وإبقاء الجلسات مفتوحة»، حتى انسحبوا أسراباً، مؤكّدين «مش هيك مِنصَلّح العلاقة مع القضاء». في موازاة ذلك، نفى مصدر في مجلس القضاء الأعلى، في حديث لـ«الجمهورية»، «وجود مواجهة بين القضاة والمحامين، إنما خلاف أو سوء فهم عادي قد يحصل ضمن البيت الواحد».
 

لم تعد القضية رمّانة أو قلوب «مليانة» بين المحامين والقضاة، بل تدهور في «الكيمياء» بين جناحَي العدالة. تدهور ليس وليد لحظة صدامات الاسبوع المنصرم، التي تمثّلت في خلافين: الاول بين المحامي نبيل رعد والقاضية سمر البحري في طرابلس التي طالبت بتعويض قدره 10 ملايين ليرة لبنانية يعود لجمعية الرفق بالحيوان، والثاني بين المحامي علي أشمر والمدعية العامة المالية القاضية نادين جرمانوس، إنما نتيجة تراكمات في العلاقة بين المحامين والقضاة.

مصادر القضاء الأعلى

في هذا السياق، يوضح مصدر في مجلس القضاء الأعلى لـ«الجمهورية»: «هاجسنا العدالة وننظر إلى أبعد من المشاكل القائمة. نتطلّع تحديداً إلى رسم خطة مستقبلية لتحديث العدالة في لبنان بأوجهها كافة، وتطوير أداء المحاكم ممّا يخلق ظروفاً مؤاتية للعمل».

ويؤكّد المصدر: «ما من مواجهة بين القضاة والمحامين إنما سوء فهم، فالتباين في المواقف أمر عادي ويحصل ضمن البيت الواحد، خصوصاً انّ عدد القضاة الذين يكتبون الاحكام فعلياً لا يتجاوز الـ350 قاضياً، فيما المحامون أكثر من 7 آلاف وعدد الدعاوى حدّث ولا حرج، فتطول الفترات»، مؤكداً «رفض المجلس أن تصل الامور إلى التعاطي بفوقية مع أي شخص كان».

ويلفت المصدر إلى «انّ نسبة الدعاوى الجزائية إرتفعت 40 في المئة بفعل اللجوء السوري، ما زاد الظروف ضغطاً».

كواليس الاعتصام

إثر الخلافين، وفي محاولة لتخفيف التشنّج، عقد مجلس القضاء الاعلى جلسة طارئة الاربعاء الفائت مع نقيبي المحامين في بيروت والشمال، إلّا انّ معظم المحامين كانت رغبتهم واحدة «بَدنا إضراب، وين التصعيد؟ وين كرامتنا؟!». لذا، دعا مجلس نقابة محامي بيروت، بعد اجتماعه يوم الجمعة المنصرم، إلى الاعتصام بعد ظهر أمس الاثنين في دار النقابة في قصر العدل.

موعد بفارغ الصبر إنتظره حرّاس العدالة، فتهافتوا منذ الثانية عشرة ظهراً وسقف رهاناتهم عال، وأقلّ ما كانوا يتوقعونه من المجلس ان يعلن الاضراب المفتوح أو الدعوة إلى مقاطعة الجلسات، وغيرها من المطالب. لذا، تهافت معظمهم إلى مبنى النقابة إلى حدّ ضاقَ بهم مكتب النقيب الشدياق، فقرر دعوتهم إلى القاعة الكبرى في الطابق الثاني، فقال أحدهم: «نقيب، ما في قاعة بتساع نَقمتنا».

عند الواحدة وعشر دقائق إفتتح الشدياق الاعتصام، قائلاً: «لنبدأ بالنشيد الوطني إنشاداً»، فبادره أحد المحامين: «كمان نشيد المحامين»، فقاطعه زميله: «ما حدا حافظوا، هَدّو البال، بالأوّل خلّينا نحافظ على قيمتو»، وغيرها من تعليقات لم تنبئ بسير الاعتصام على خير ما يرام.

بعد مقدمة من الشدياق أثلجَ فيها صدور المحامين بقوله: «انّ الوضع لا يطاق، وقد عيل صبرنا»، مؤكداً أنّ النقمة هي على «بعض القضاء». وانتقل بعدها الى تلاوة البيان الذي خرج به اجتماع النقابة الذي عقد يوم الجمعة المنصرم.

أكثر من مرّة قاطع المحامون الشدياق بحرارة تصفيقهم، حين ذكّر بنص المادة 75 من قانون تنظيم مهنة المحاماة «التي لا تجيز توقيف المحامي إحتياطياً في دعاوى القدح والذم أو التحقير التي تقام عليه بسبب أقوال أو كتابات صدرت عنه أثناء ممارسته لمهنته».

وحين أكّد «رفض النقابة المَساس بكرامة القضاء، وفي المقابل عدم وجود مبرّر للمساس بكرامة المحامين، فرسان العدالة، من قبل بعض القضاة وقلة من الموظفين، بالتعاطي مع المحامين بفوقيّة واستعلاء في خلال تسيير أمور موكليهم، ثم يدّعون العِفّة وينسبون الى المحامين التعدي»، إرتفع التصفيق، وطلب المحامون من النقيب تكرار ما قاله: «عِيدا، عِيدا يا نقيب».

لجنة مشتركة

وتوقّف الشدياق عند شكاوى النقابة، قائلاً: «للمحامين أيضاً شكاوى مُحقّة لجهة تسيير المرفق العام القضائي بتأخير مواعيد انعقاد الجلسات والتباطؤ في إفهام الأحكام وبإزاء أي حالة شاذة، يدعو المجلس بعض القضاء إلى تقديم أي تَشكٍّ بوجه محام إلى النقابة المسؤولة وحدها عن مسلك المحامين حسب قانون تنظيم مهنة المحاماة، كما يطلب من المحامين اللجوء إلى التفتيش القضائي كلما دعت الحاجة».

ودعا الشدياق إلى «تشكيل لجنة مشتركة بين النقابة ومجلس القضاء الأعلى تكرّس كأولوية ما استخرجه القضاء نفسه في أحكامه من مفاهيم واضحة المعالم بالنسبة إلى مسألتي التوقيف الإحتياطي وعدم جوازه في قضايا القدح والذم والتحقير».

بَقي التناغم سيّد الموقف، والمحامون يتلقون بيان النقابة بكل إيجابية وبتعَطّش إلى سماع التصعيد، إلى أن وصل الشدياق إلى النقطة الخامسة، قائلاً، «أخيراً، بعد اجتماعنا مع مجلس القضاء الأعلى سَعياً للتهدئة، ندعو الزملاء إلى الاكتفاء آنيّاً (مشدّداً على الكلمة) بالاعتصام اليوم، وإبقاء جلسات مجلس النقابة مفتوحة». بِلمح البرق إسودّت أوجه المحامين الذين أطلقوا العنان لتأفّفاتهم، ولعدم إامتنانهم من موقف النقابة، «كان بَدنا أكتر من هَيك».

ماذا بعد؟

وسط تململ المحامين، أعربت المحامية ندى تلحوق عضو مجلس النقابة لـ«الجمهورية»، عن تفهّمها لزملائها، موضِحة: «انها المرة الاولى التي نخرج بها إلى الإعلام للتحدّث عن مشكلتنا مع «بعض القضاء»، فليعتبرها الزملاء خطوة تحذيرية كي لا نبرز في موقف متسلّط منذ المرة الاولى، على أن يليها خطوات تصاعدية نظراً إلى اننا أبقَينا جلساتنا مفتوحة».

ولا تنكر تلحوق «أنّ موقفها الشخصي كان الاتجاه لتصعيد أكبر، وإقفال العدلية ريثما تتنظّم الامور، وأن يُكرّس البروتوكول في تحسين العلاقة بين المحامين وبعض القضاة».

وأضافت: «أتفهّم صرخة الزملاء كونهم في الواجهة وعلى الأرض ميدانياً، ويتلقّون أحياناً تصرفات مهينة إضافة الى بعض من الفوقية. لكنّ النقابة قررت تلاوة البيان على أن تأخذ مواقف بحسب التطورات»، مؤكدة أنّ «كل المسألة تحتاج إلى قليل من التواضع، ولكلّ منّا كرامته».

وعلى أثر اعتصام نقابة المحامين، إجتمع مجلس القضاء الأعلى لساعات، وعند التاسعة والربع ليل أمس أعلن في بيان «ضرورة التعاون والتقدير المتبادلين بين السلطة القضائية، أجهزةً وقضاةً، من جهة، وجسم المحاماة بنقابتيه والأساتذة المحامين المنتسبين إليهما من جهة أخرى».

وأعلن «عن نيّته المتمثّلة بإحياء تقليد عريق دَرجَ عليه الأسلاف، ومآله تكثيف اللقاءات بين مجلس القضاء الأعلى ونقابتَي المحامين وعقد ورشة عمل مشتركة في القريب العاجل تعمل على تحقيق الاهداف السامية التي نَصبو جميعاً إليها».