كان الخيار الأبيض الذي لجأ إليه تكتل «لبنان القوي» في استحقاق رئاسة مجلس النواب بعد انتخابات نيابية عصفت بها النسبية فأعادت خلط موازين القوى، بمثابة راية بيضاء قرّر التكتل العوني رفعَها لـ«تحية» الرئيس نبيه بري ومهادنته، قبل فتح صفحة جديدة في دفتر العلاقة الثنائية العتيق.
 

رئاسة «أبو مصطفى» للمجلس للمرة السادسة على التوالي، لم تكن موضعَ اشتباك أو منافسة أو مناورة، لا بل كانت محسومة عدَدياً وسياسياً، لكنّ إنكفاء «القوات» عن وضع اسم نبيه بري في الصندوقة الخشبية، لمصلحة الورقة البيضاء من دون أن تكون «بوجه بري» كما أعلن رئيس الحزب سمير جعجع، فتَح ممرّاً آمناً أمام رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل لرفع «الفيتو» عن «حليف الحليف».


اختار العونيون عنوانَ احترام الميثاقية والحؤول دون تشوّه رئاسة بري بعطب «تصحّر» الصوت المسيحي في «سكوره» الرئاسي، لكي يسدّدوا «تمريرة حسن النّية» في ملعب رئيس المجلس، ما حمل الكثير من المعاني والرسائل.


منذ توقيع تفاهم مار مخايل، لم تنفع محاولات «حزب الله» في تقريب المسافات بين الحليف وحليف الحليف. عقليّتان مختلفتان ومقاربتان لا تتشابهان، وحتى الكمياء لعبت دوراً سلبياً بين بري والعماد ميشال عون. حاول «الحزب» مراراً وتكراراً رأبَ الصدع الآخذ في التوسّع على خط الزلزال بين عين التينة والرابية، والعمل على توسيع مساحة القواسم المشتركة... ولكن من دون جدوى.


كانت التباينات أعمق وأقسى من قدرة الطرف الثالث على اختراق جدارها الإسمنتي، لا بل الحديديّ. تبدأ «السيرة» من ملف الكهرباء وقبله النفط والغاز ولا تنتهي باتّهامات الفساد وكيفية إدارة الدولة.


حتى الانتخابات النيابية في مربعها الجنوبي، وثّقت بالصوت والصورة جولات من الاشتباكات الكلامية تبادلها الحليفان المفترضان اللذان التقيا في دوائر وتخاصما في دوائر أخرى. بلغت الحدّة مطارح غير مسبوقة: في زيارته الأولى للجنوب خاطب باسيل، من رميش، «المحرومين» في قرى بلدات مرجعيون وبنت جبيل المسيحية مؤكداً أنّه «من غير المنطقي أن يكون 70 ألف مسيحي في الجنوب لا يستطيعون اختيارَ نائب واحد عنهم بل يتمّ الاختيار عنهم».


في عين التينة، درجت العادة منذ صار أبو مصطفى رئيساً للمجلس، أن تُطبخ التسويات والتفاهمات في «ديوانيّته». كان الرجل أشبه بـ»صانع رؤساء». مع رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» اختلف الوضع. كان بري آخر مَن ساروا في خيار «المسيحي القوي»، لكنه سرعان ما استوعب «الصدمة» إلى حدّ التماهي مع الرئيس عون في كثير من العناوين الكبيرة وأهمها قانون الانتخابات، إلى حدّ الكلام عن صياغة ورقة مشتركة شبيهة بتفاهم مار مخايل. رئيس المجلس تصرّف بحرفية وبراغماتية على قاعدة أنّ ما قبل الاستحقاق الرئاسي غير ما بعده.


لطالما كانت العقدة في خشبة باسيل. وما إشكاليّة الفيديو المسرّب من البترون والذي كاد يعيد البلاد عشرات السنين إلى الخلف، إلّا مشهد مصغّر عن تجليات التوتر بين الرجلين.


ومع ذلك، يبدو أنّ قاموساً جديداً للعلاقة الثنائية يستعدّ ليحلّ محلّ ذلك القائم منذ عودة عون من منفاه الطوعي في باريس في العام 2005. وما عودة «تكتل لبنان القوي» الممَنهجة إلى لقاء الأربعاء النيابي، إلّا أوّل الغيث. النواب الان عون، سليم عون وسيمون أبي رميا، كانوا «ضيوف» الجلسة الأخيرة الاستثنائيّين. صحيح أنّ «تكتل التغيير والإصلاح» كان يشارك في كثير من الأحيان في ديوانية الرئيس بري عبر النواب السابقين عباس هاشم ونبيل نقولا وناجي غاريوس، ولكنّ لهذه الجولة نكهتها.


راهناً، كما يقول نواب عونيون، ثمّة مسعى لتطبيع العلاقة ونقلها من ضفة الخصومة المتقطعة أحياناً بهدنة موقتة، إلى ضفة التواصل والتنسيق ولو بالحدّ الأدنى. وصارت المشاركة الأسبوعية، منظّمة، سيتولّاها بشكل خاص النائب سليم عون، مع العلم أنّ جلسةً «وجهاً لوجه» جمعت الرئيس بري بالوفد العوني الذي حضر لقاء الأربعاء للتداول في آخر المستجدات.


النائب الان عون صار في هيئة المكتب، ما يعني تثبيت الرابط العضوي المؤسساتي بين الرئاسة الثانية و»التيار الوطني الحر». وانضمام «التكتل» الى الهيئة لم يأتِ عن عبث أو صدفة، بل عن قصد، من باب العمل على ترميم الجسور المتكسّرة.


عملياً، هذه ليست صحوة «التيار» المفاجئة تجاه رئيس المجلس ولا هي تراجع عن خطأ، بقدر ما هي قراءة مستجدّة للواقع السياسي، ولمزاج الرأي العام ولأرقام الانتخابات، قد تفرض على الجميع التعالي عن مناكفاتهم الضيّقة للبحث عن هوامش مشترَكة تسمح لهم بتحويل حكومة الأربع سنوات المنتظرة، إلى «حكومة المعجزات»!


هي فعلاً النتائج التي بيّنتها صناديق الاقتراع والتي أظهرت بما لا يقبل الشك أنّ شريحة كبيرة من الرأي العام غير راضية عن الطبقة السياسية ولم تعد «تقبض جدّ» كل الشعارات السيادية التعبوية ولا العناوين الكبرى التي جرى استثمارُها طوال السنوات الـ13 الماضية. حتى «التيار الوطني الحر» لم يعد في استطاعته أن يُقنع الناس بخطاب الحرّية والسيادة والاستقلال التي حملته على متن «التسونامي» إلى برلمان 2005، ولا شعار الشراكة والمناصفة الذي منحه الشرعية الميثاقية في برلمان 2009.


بعدما صار ميشال عون على رأس الحكم، و»التيار الوطني الحر» شريك الأقوياء، صار لا بدّ من مقاربة جديدة.


بات العونيون كما غيرهم من قوى السلطة، مقتنعين أنه يستحيل عليهم الاقتراب من معمودية 2022 من دون تحقيق إنجازات حقيقية تقرّبهم من الناس. لا بدّ من كهرباء 24/24، من ماء في الحنفيات، من شبكة طرق عصرية، من زوال المطامر والنفايات عن الطرق، من طبابة وتعليم... وإلّا ستكون نهايتهم في محرقة صناديق الانتخابات.


ولن يتمكّن أيٌّ من الجالسين على طاولة سعد الحريري الثانية في العهد العوني، من تحقيق أيِّ إنجاز من دون حدّ أدنى من التفاهم. ولهذا صار لا بدّ من مراجعة أسس العلاقة مع بري. القرار ليس ابن ساعته، وانما مضى وقت على جوجلته ومناقشته داخل الأروقة الضيّقة، حتى إنّ الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصر الله عاد وطرحه مع باسيل خلال اللقاءَين الأخيرَين، قبل الانتخابات وبعدها.


اذاً ثمّة حاجة متبادَلة لإرساء أرضيّة تفاهم ترعى حكومة سيُقدّر لها أن تصمد أربع سنوات لتشرف في نهاية مطافها على الاستحقاق النيابي، كما سيتسنّى لها فيما لو سارت بعناية التوافق أن تنجز الكثير من المشاريع الحيوية. وما دامت يد «التيار» عاجزة عن التصفيق لوحدها، حتى لو التقت معها يد رئيس الحكومة، فهي في حاجة حكماً إلى يد حركة «أمل».


بهذا المعنى، صارت المقاربة أكثر واقعيّة، قد تدفع «التيار الوطني الحرّ» إلى تقليص المسافات الفاصلة بينه وبين عين التينة، خصوصاً وأنّ مظلّة التفاهم بين عون وبري تحصّن هذا التنسيق بدعم من باسيل.


كما أنّ هذه المودّة ليست من طرف واحد، كما يؤكّد العونيون، إذ يلمسون حرصاً من الرئيس بري على تطوير العلاقة ورغبة بالتعاطي بشكل إيجابي في عمل الحكومة العتيدة.