حين وقف رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل على منبر «اللقاء العربي- الروسي» للتعاون في دورته الخامسة الذي عُقد في موسكو، لم يستخدم أسلوب المواربة، وفضّل الكلام المباشر حين توجّه إلى الجامعة العربية مطالباً إياها بإعادة سوريا إلى مقاعدها. كذلك فعل باسيل بداية السنة أمام وزراء الخارجية والاقتصاد العرب حين قال: «سوريا يجب أن تعود إلينا لنوقف الخسارة عن أنفسنا». لم يُعر اهتماماً للشرخ العمودي الذي يقسم المشهد اللبناني بين مؤيّد لتطبيع العلاقات الثنائية مع دمشق وبين رافض لها، وركّز على موقفه بنحو يُرضي حلفاءَه لا أكثر، ويُبطِل مفعول اللُّبس الذي سبق وأثاره بسبب مواقفه من العداء الأيديولوجي مع إسرائيل.
 

لا شك في أنّ الاعتبار الرئاسي هو الأساس والغاية في حركة رئيس «التيار»، كونه يرى في نفسه مرشّحاً متقدّماً على غيره من الموارنة، ويدفعه إلى «تصفير» إشكالاته مع قيادة «حزب الله»، ولو أنّها محدودة في الأساس، لكنها مُعرّضة للتعمُّق في ضوء السياسة التوسعية التي اعتمدها باسيل منذ قيام التسوية الرئاسية التي أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. والمقصود بهذا التوسّع، علاقته برئيس الحكومة سعد الحريري.

تنقسم التفسيرات حول «ملوكية» جبران باسيل تجاه قوى الثامن من آذار، في هذا التوقيت بالذات حيث تشهد البلاد نفضة تقشّفية استبقها «حزب الله» بحملة مكثفة يحاول من خلالها الإثبات في الوجه الشرعي أنّه لم يعد يدير ظهره للداخل اللبناني، لا بل قرّر أن يكون شريكاً فعلياً في النقطة والفاصلة والشاردة والواردة. والأهم من ذلك السؤال عن مصير كل ليرة ستصرفها الدولة اللبنانية، أو قد تُهدر من أمام المالية العامة.

ففي موازاة الإجراءات التقشفية التي ستفرضها الحكومة بواسطة الموازنة العامة، ثمّة مجهود اضافي يسعى «حزب الله» الى القيام به بغية وقف الهدر أو التخفيف من أعبائه، فيما تتكثّف الشكوك حول أداء «التيار الوطني الحر» الذي يظهر وكأنه شريك في منظومة «حنفيات الهدر»، وفي أحسن التوصيفات، غير مهتم أو معني بمحاصرتها وتطويقها.

ثمّة فريق يعتقد أنّ باسيل يحاول استنساخ تجربة الرئيس رفيق الحريري مع «حزب الله» حين وضع أطراً تفاهمية لعلاقته مع قيادة الحزب على قاعدة «اعطوني الاقتصاد وخذوا مني ما يدهشكم في المقاومة»، حيث يحاول رئيس «التيار الوطني الحر» تدليل حلفائه عبر الاستفاضة في اطلاق مواقف من القضايا الكبرى ترضي «حزب الله» خصوصاً، سواءٌ في ما يخص المقاومة أو سوريا أو حتى القضية الفلسطينية... وذلك مقابل اطلاق يديه في الشأن الداخلي، وتحديداً في إدارة القطاعات الحيوية.

يقول أصحاب هذا الرأي إنّ هذه القاعدة هي الغالبة على أداء باسيل بعدما نجح في تنظيم علاقته مع الحريري وتطويرها على نحو استثنائي، ما أتاح له توسيع بيكار حركته لكي لا يبقى عالقاً في عنق تحالف الثامن من آذار، ولهذا يراكم المواقف التي «تُسكِر» قيادة «حزب الله» مقابل التعامل معها كأيِّ مكوِّن داخلي آخر. ويضيفون أنّ هذه القاعدة تتيح لباسيل فرض هامش جديد للتفاهم مع «حزب الله» يسمح له بالاختلاف معه شرط عدم الإضرار بمصالحه، أسوة بما يقوم به مع الحريري حين يتفاهم معه حيناً ويختلف معه أحياناً، أو كما يحصل مع رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط.

ويرى هؤلاء أنّ باسيل يحاول تعميم هذا المنطق على علاقته بـ»حزب الله» من غير أن يثير حساسيته في اعتبار أنّ التعويض يكون من خلال فائض المواقف إزاء القضايا الخارجية، خصوصاً أنّ تجربة السنتين المنصرمتين أثبتت أنّ ثمة ملفات داخلية يفضّل رئيس «التيار الوطني الحر» التفاهم حولها مع الحريري لا مع غيره طالما أنّها لا تضرّ بـ«حزب الله» على المستوى الاستراتيجي.

لكن ثمة وجهة نظر لدى قوى الثامن من آذار ومفادها أنّ «حزب الله» ليس في وارد «التطنيش» عن أيِّ ملف داخلي لمصلحة الإغداق عليه بالمواقف الخارجية المتناسبة مع استراتيجيته، بعد انتقاله إلى مرحلة الانغماس الكليّ في الشأن الداخلي إثر بلوغ المالية العامة خطوطاً حمراً لا يمكن السكوت عنها. وهو بالتالي سيغادر مقاعد المتفرّجين ليكون في قلب فريق الدفاع أو حتى الهجوم إذا اقتضى الأمر.

ومع ذلك، يقول هؤلاء إنّ لـ«حزب الله» محاذيرَ في أدائه الداخلي، لعلّ أهمّها عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع حلفائه أو حتى مع مَن يتقاطعون معه في المصلحة، ويفضل ترك المهمة لغيره إذا ما قرّر هذا الغير تكليف نفسه في هذه المهمة، كون «حزب الله» يتجنّب الصدام مع قوى صديقة، ويحاول دوماً القيام بهبوط هادئ لمواقفه خصوصاً في ما يتعلق بحملة مكافحة الفساد، وقد يضطر أحياناً إلى الاكتفاء بالتفرج على مناوشات قد تصيب حلفاءه بلا التدخل المباشر لمصلحتهم أو للدفاع عنهم، خصوصاً إذا اقتضت حماية المالية العامة ذلك.