أيّ مراقب يمكن ان يخرج بانطباع مفاده انّ «حزب الله» يتجنّب المواجهة مع «القوات اللبنانية»، فهل هذا الانطباع في محلّه، ولماذا؟ وما صحة الكلام الصادر أو المنقول عن الحزب بأنه ضد عزل أي فريق سياسي؟
 

من الواضح أنّ أولوية «حزب الله» منذ اندلاع الحرب السورية التبريد السياسي في لبنان، وهذا ما دفعه إلى سحب الاشتباك الحكومي آنذاك والذهاب إلى حكومة بالتوافق مع الرئيس سعد الحريري ترأسها الرئيس تمام سلام، وصولاً إلى انتخاب الرئيس ميشال عون وتكليف الرئيس سعد الحريري ترؤس أولى حكوماته والثانية على الطريق.


ففي شكل عام لا يريد الحزب العودة إلى الانقسام الذي تَبعَ الخروج السوري من لبنان، وإذا كان تفرّغه من أجل الحرب السورية وضرورات ترييح بيئته في الداخل دفعاه نحو التبريد، فإنّ التطورات الإقليمية المتلاحقة من انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، إلى الاشتباك العسكري الإسرائيلي-الإيراني، وصولاً إلى العقوبات التي تطوِّق الحزب وملف ترسيم الحدود البرية والبحرية الذي قفز إلى الواجهة ومن ضمنه خروج الجيش الإسرائيلي من مزارع شبعا، سيدفعاه إلى التمسّك أكثر فأكثر بالتهدئة، لأنّ المنطقة في مرحلة تحولات كبرى، وأولوية الحزب في هذه المرحلة تتركّز على متابعة تلك التحولات التي قد تكون مصيرية، بعيداً عن الصخب الداخلي الذي يحرف أنظاره عن متابعة التطورات الخارجية.


وفي هذا السياق تحديداً يأتي استعجال «حزب الله» لتأليف الحكومة، ليس لأنه يخشى العقوبات، بل تحسّباً لتطورات غير محسوبة في ظل إدارة أميركية يصعب التكهّن بخطواتها، ومرحلة تصعيدية بامتياز تنبئ بتطورات غير مرتقبة. وبالتالي، من الأفضل، بالنسبة إلى الحزب، ضمان تأليف الحكومة الذي يشكل جزءاً منها ومن قرارها، فيما الأمور في حكومة تصريف الأعمال محصورة بشكل أو بآخر بيد رئيسها، فضلاً عن تمسّكه بالمظلة الرسمية والشرعية التي هو بحاجة إليها وتوفّرها الحكومة الجديدة.


ويعتبر الحزب وغيره من القوى السياسية ان لا مبرر لتأخير التأليف طالما انّ العقد معروفة، وبما انّ الحكومة ستشكّل في طبيعة الحال فلماذا تشكيلها بعد شهرين او ثلاثة إذا كان بالإمكان تأليفها اليوم عن طريق العمل الجاد لفكفكة العقد الموجودة، وهي قابلة للفكفكة، خصوصاً انّ البلاد دخلت مع هذا الأسبوع في تهدئة سياسية تساهم في تسريع التأليف.


وبناء على كل ما تقدّم أصبح ممكناً الكلام عن أسباب تجنّب «حزب الله» المواجهة مع «القوات اللبنانية»، لأنه في الحقيقة يتجنّب المواجهة مع أي كان في ظل أولوية التهدئة السياسية التي يرفعها، ولكن في موازاة التهدئة التي تنسحب على الجميع يمكن التوقّف أمام الآتي:


أولاً، على المستوى الحكومي: يدرك «حزب الله» انّ تجاوز «القوات اللبنانية» في تأليف الحكومة التي يستعجل تأليفها ليس مسألة بسيطة بفعل عوامل عدة: حجمها النيابي، وزنها الشعبي، تحالفها مع الرئيس الحريري الذي لا يملك ترف دخول الحكومة من دون «القوات» التي يستطيع معها تأمين التوازن السيادي، وتشكّل مشاركتها عامل ارتياح للحريري محليا وخارجيا، فيما أكثر من دولة عربية وغربية لم تنظر بارتياح إلى نتيجة الانتخابات وترى في استبعاد «القوات» محاولة لوضع اليد على البلد، الأمر الذي يمكن ان يعرقل التأليف.


ومن هذا المنطلق يرى الحزب انّ محاولة استبعاد «القوات» ستؤخر تأليف الحكومة، خصوصاً انه بات يتعذر تعويض عدم تمثيلها بقوى وشخصيات سياسية أخرى بعد نتائج الانتخابات الأخيرة. وبالتالي، تمثيلها من أجل التوازن السيادي يصعب تجاوزه داخليا وخارجيا. وبالتالي، تلافياً للتأخير دعا الحزب مواربة وصراحة إلى الابتعاد عن سياسة العزل تسريعاً للتشكيل.


وفي موازاة هذا العامل وعلى المستوى الحكومي أيضاً، يبدو وكأنّ «حزب الله» يرى في «القوات اللبنانية» عامل توازن ضروري مع السياسات الباسيلية. وبالتالي، تلافياً لأن يصطدم الحزب مباشرة بباسيل يفضّل أن تتولى «القوات» المهمة انطلاقاً من رفضها منطق المسايرة ومفهومها للشأن العام الذي يتناقض مع باسيل ويتقاطع مع الحزب. لذلك ينظر الحزب إلى المشاركة القواتية في الحكومة كعامل توازن ضروري مع باسيل.


ثانياً، على المستوى الباسيلي: العلاقة بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» لم تعد بالمستوى نفسه الذي كانت عليه في المرحلة التي سبقت انتخاب عون رئيساً، وهذا أمر معروف، وإذا كانت حاجة الطرفين لبعضهما البعض ما زالت قائمة وستبقى كذلك، إلّا انّ الحزب لا يستطيع ان يلعب «سولد» مع طرف ترك الـ»سولد» من أجل الموازنة بينه وبين «المستقبل»، وفي ملفات معينة الأمور طابشة لمصلحة «المستقبل» لا «حزب الله».


ولا تقف الأمور عند هذا الحد بل تجاوزتها إلى مواقف باسيلية تبدأ من النظرة إلى إسرائيل، ولا تنتهي باتهام باسيل للحزب بعدم تطبيق تفاهم «6 شباط» لجهة انّ خياراته الاستراتيجية باتت تتناقض مع مفهوم بناء الدولة، وما بينهما الدخول في مواجهة لا علاقة لها بالسياسة مع الرئيس نبيه بري في محاولة تدلّ على عدم فهم الثنائية الشيعية وهدفها فصل الحزب عن الحركة.


فما كان يصحّ قبل السياسة الباسيلية التي تقصّدت توجيه رسائلها في أكثر من اتجاه لم يعد يصحّ من بعدها. وبالتالي، لن يمنح «حزب الله» باسيل شيكاً مسيحياً على بياض كما كان يفعل سابقاً، وسيتركه ما بين حدّين، حدّ أن ينأى بنفسه عن مواجهات باسيل السياسية ولو كانت مع «القوات اللبنانية»، وحدّ ان يتحفظ عن هذه السياسة.


ثالثاً، على المستوى المسيحي: يبدو انّ «حزب الله»، وعلى أثر ما أفرزته الانتخابات من نتائج، يريد ان يتجنّب الصدام مع فريق مسيحي أثبتت الوقائع انه يناصف مع «التيار الحر»، على رغم انّ الأخير ما زال في بداية عهده ومع كل ما يحمله من وعود وخدمات ومصالح ووزارات. وبالتالي، إذا كانت الأمور على هذا النحو في مطلع العهد فكيف ستكون الحال في نهايته؟ ولذلك، بدأ الحزب التفكير جدياً في كيفية التعامل مع هذا الواقع المستجد بنظره، وهذا لا يعني التفاهم مع «القوات» التي يصعب التفاهم معها استراتيجياً، إنما مواصلة سياسة التبريد بانتظار ان يكون وجد السياسة الملائمة والمناسبة.


رابعاً، على المستوى الوطني: الإستقرار السياسي الذي ينشده «حزب الله» في هذه المرحلة للضرورات الإقليمية الواردة سابقاً لا يمكن ان يتأمّن من دون مشاركة «القوات اللبنانية»، التي بيّنت الانتخابات انها فريق وازن على المستوى الشعبي وبتقاطعاتها الوطنية، خصوصاً ان «القوات» رددت وتردد انها جزء لا يتجزأ من التسوية وحريصة عليها. وبالتالي، استبعادها عنوة ولأسباب سلطوية وذاتية يشكّل نكسة للانطلاقة الجديدة، ويفتح ثغرة سياسية في المشهد الوطني يريد الحزب تلافيها وتجنّبها.


فلكل هذه الأسباب وغيرها، ربما، يتجنّب «حزب الله» المواجهة مع «القوات اللبنانية».