كل الحديث السياسي في لبنان بات يتركز على مرحلة ما بعد الانتخابات، لكن بعض المؤشرات تسهم في استكمال رسم المشهد، الذي يبدو واضحاً، حزب الله مرجعية عليا، خلفه ثنائية ثابتة بين التيارين البرتقالي والأزرق، مقابل شد أواصر تحالف ثنائي آخر بين الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط مع بعض الأفرقاء الآخرين، كتيار المردة وشخصيات مستقلة. خلال تشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري بعيد الانتخابات الرئاسية، كانت تدور في الكواليس مواقف بأن الطرف المتضرر من التسوية، والذي تفاجأ بها، لن يسمح لهذا العهد أن يستمر. هي لعبة المواقع وأدوار الطوائف في لبنان. وهذا ما قد يستمر في مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية.

ما قد يطيح بهذا الاتفاق هو حسابات مختلفة للقوى، كمفاجآت في نتائج الانتخابات، التي قد تؤدي إلى اهتزاز التسوية برمتها. ففي حال شكّلت نتائج الانتخابات مفاجآت غير محسوبة بالنسبة إلى القوى السياسية، أو لفريق أساسي فيها، فهذا سيؤدي إلى الطعن بها وإعادتها. فمثلاً، أن يمنى تيار المستقبل بخسارة كبرى، أو الثنائي الشيعي بخروقات غير متوقعة أو محسوبة، أو حتى التيار الوطني الحر، أو حصول مفاجآت غير متوقعة في الساحة الدرزية أيضاً، فإن ذلك سيؤدي إلى إعادة إجراء الانتخابات على قواعد تحالفية جديدة.

أي اختلال بموازين القوى أو حصول تغييرات مفاجئة في الستاتيكو القائم سيؤدي حكماً إلى الطعن وإعادة الانتخابات. وهذه قد تكون ردة فعل على فرض قانون انتخابي على قوى لم تكن قادرة على تعطيله. لكن حصول خسارات متوقعة أمر يمكن التضحية فيه مقابل استمرار الاتفاق على التقاسم النفطي، شرط أن لا تعدل النتائج التركيبة السلطوية الحالية، بحيث تبقى وفق ما يطلق عليها تسوية الاستقرار، التي ستستمر طالما استمرت الاوضاع الاقليمية على حالها.

المسألة تتعلق بصيغة لبنان التي قامت على مبدأ الطائفية التقليدية في ميثاق العام ١٩٤٣، بحيث لا يسيطر طرف واحد على الاطراف الأخرى أو حتى ضمن الطائفة الواحدة. لكن هذا لم يحصل على أرض الواقع، ففي العام ١٩٧٥ انفجرت هذه الصيغة، بين يسار يريد تعديل الصيغة، ويمين يريد الحفاظ عليها من دون أي إصلاح. وما بينهما كانت قوى الإسلام التقليدي، التي لا تريد إصلاحاً كاملاً، ولكن تريد الغاء التفرد. سنوات الحرب الاهلية لم تنجح في القضاء على صيغة ٤٣، واتفاق الطائف هو صيغة تجديد معدّل لتلك الصيغة. وليس تفصيلاً أن إخراج الاتفاق برعاية دولية تم في مجلس نواب يمثل الصيغة القديمة.

أحدثَ الطائفُ توازناً جديداً بين القوى، وداخل كل طائفة، حصر التوزيع الفعلي بعكس ما جاء في نصوصه، بحيث جرى تعزيز القوة الشيعية، من خلال تعزيز دور رئيس مجلس النواب الذي لا يمكن تغييره أو إقالته مثلاً، وهو صاحب السلطة الأكثر استقراراً، مقابل نشوء مرحلة من التعايش والمواءمة بين الاقتصاد والسياسة. تقوية الذراع الشيعية حصلت على جانبين، تثبيت السلطة نظرياً وسياسياً، وتعزيز دور حزب الله الذي يحظى بمشروعية سياسية وايديولوجية على خلفية موقفه من المقاومة، على أرض الواقع.

في المقابل، تعرض المسيحيون لتهميش لا مثيل له، مقابل صعود السنة واستمرار الشد والجذب. ما أدى إلى اسقاط صيغة ٤٣، والإطاحة بصيغة لا غالب ولا مغلوب، بسبب تغير ميزان القوى على الأرض. لتأتي مرحلة انتقالية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان. في تلك الفترة، كان هناك فرصة لإعادة انتاج التوازن والذهاب إلى نواح إصلاحية، عبر العودة الحقيقية إلى تطبيق اتفاق الطائف. لكن قوبل ذلك بممانعة من حلفاء سوريا. وهذا توّج في فرط ١٤ آذار واختلال التوازن بين مشروعين، بمعزل عن سلبياتهما. ما أدى إلى ثبات الاوضاع على واقع تنتفي فيه كل معايير التوازن.

بعد فرط 14 آذار، وفي ظل إصرار التيار الوطني الحر وحزب الله على انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية بأي طريقة، خرجت مصطلحات متعددة، منها المثالثة، أو مؤتمر تأسيسي أو صيغة القانون الارثوذكسي، أو الذهاب إلى الاستفتاء الشعبي، أو لقاءات بكركي لترشيح صاحب الشعبية المسيحية الأكبر. كل هذه كانت تهدف إلى دفن الطائف. جرت مواجهة هذه المقترحات، لأنها كانت فجة، لم يكن لأي طرف قدرة على احتمالها شعبياً وطائفياً، إلى أن ولدت التسوية الحالية، التي يشير السياق التطبيقي الخاص بها، إلى أنها تعمل على تطبيق تلك الشعارات واقعياً لا علنياً، وذلك عبر مأسسة اختلال ميزان القوى، بحيث لا يصبح خللاً لحظوياً، بل يتم تأبيده في سياق نفوذ زعماء الطوائف على طوائفهم، وحصر التوازن بين شخصيات قليلة.

وهذا لا بد ان ينتج تحولاً في التركيبة السياسية العامة في البلد، وهو قادر على نسف ما لم تنجح الحرب الأهلية بنسفه، ومأسسة هذا الاختلال ستقود على المدى البعيد إلى اضمحلال دور ركن من اركان هذا التوازن، لمصلحة الشيعية السياسية التي فاقت في سيطرتها المارونية السياسية. بالتأكيد، إذا ما حملت نتائج الانتخابات بعض المتغيرات الجوهرية، فهذا سيؤدي بكثير من القوى إلى المطالبة بإلغاء الانتخابات وإعادتها. أما في حال تخطيها، فإن مأسسة اختلال موازين القوى ستؤدي إلى إنفجار سيبقى مؤجلاً إلى لحظة إعادة تغيير موازين القوى على الصعيدين الدولي والإقليمي.