السعودية تسحب نهائيا البساط من تحت أرجل كل المؤسسات التعليمية والثقافية والخيرية والدعوية التي كانت تنتشر في العالم لنفخ التشدد بالنسخ التي كانت مطلوبة.
 

حين يتحدث ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان عن مقاربته لإعادة بلاده إلى عهود ما قبل “الصحوة”، أي إلى ما قبل عام 1979، فإن في آليات الوصول إلى هذا الهدف ما ينهي حقبة تاريخية لا تشمل السعودية فقط بل العالم أجمع.

فالأمير يبشر بعودة المملكة إلى الإسلام المعتدل السمح، والتخلي عن نسخة الدين المنغلق المتشدد التي اعتمدت لأربعة عقود، وبالتالي فإن الرياض تعلن نهاية زمن استخدام الدين كسلاح من أسلحة السياسة الخارجية التي كانت مطلوبة على المستوى الدولي.

عملت المملكة على تحصين نظامها السياسي من خلال الدرع الديني اتقاء “أخطار” الناصرية التي أطلت “شرورها” من اليمن، وخلُصت إلى أن إطلاق العنان لسلفية سنّية متشددة هو السبيل لوقف تمدد الشيعية المتشددة التي نفخ بها نظام الجمهورية الإسلامية الصاعد في إيران. لكن السعودية، إضافة إلى ذلك، انخرطت بأذرعها الدينية داخل الورشة الدولية لمكافحة الشيوعية والإلحاد، لا سيما في أعلى صوره إثر الاجتياح السوفياتي لأفغانستان في ديسمبر 1979.

ليس دقيقا القول إن “الصحوة” كانت منتجاً محلياً سعودياً ناتجاً عن بيئة بيتية خالصة. تضافرت مواد أولية كثيرة، إقليمية ودولية، لجعل الأمر الديني في المملكة خياراً إلزامياً لحلف دولي كانت أولوياته تنحصر في إسقاط “الشر” في موسكو.

لم يكن “الجهاد” في أفغانستان خصماً تكافحه العواصم الغربية بالقوة والكلمة، بل نموذجا مقاوما تحجّ إليه زائرة شخوص الليبرالية الدولية وترعاه منابر “العالم الحر” في العالم. وعليه فإن السعودية في خيارها “الصحوي” كانت تتسق في ثقافتها وخياراتها مع قيم العالم الغربي وثقافته وخياراته داخل الورشة التي حددت قواعدها الحرب الباردة.

لم تكن الرياض تغرّد خارج السرب الدولي حين اتخذت موقفا معادياً لخيارات إيران- الخميني في تصدير الثورة. كان قيام نظام الجمهورية الإسلامية في طهران يحمل أخطارا ثلاثة: ذلك الثوري الذي لم تتسامح معه الأنظمة العربية المحافظة، وذاك الجمهوري الذي لطالما هددت نسخُهُ المتنامية في المنطقة منذ خمسينات القرن الماضي الأنظمة الملكية، وذلك الديني الذي يأتي بوقاحة ليطرق الباب السعودي مشككاً بشرعية المملكة في الدفاع عن الإسلام في مهده التاريخي.

والسائد أن “الصحوة” في السعودية كانت حاجة سعودية تمت رعايتها تماما في مرحلة سابقة من قبل المجتمع الدولي باعتبارها من لزوميات النظام العالمي ومن القواعد الأساسية وليس الفرعية له. كانت تلك القواعد ترمي إلى مواجهة الشيوعية التي تغزو العالم من موسكو، وإلى التصدي للثورية الدينية التي تبث من طهران في المنطقة والعالم. والسائد أيضاً أن الرياض في “صحوتها” كانت جزءا من معركة الخلاص من الاتحاد السوفياتي عبر البوابة الأفغانية، كما من معركة التصدي للخمينية من خلال الحرب العراقية الإيرانية، قبل أن تُبدّل حرب الكويت عام 1991 واعتداءات 11 سبتمبر 2001 بعد ذلك وغزو أفغانستان والعراق لاحقاً من أولويات العالم وخياراته الاستراتيجية.

نهاية استخدام الدين سلاحا من أسلحة السياسة الخارجية
على أن قرار السعودية وفق رؤية محمد بن سلمان إسقاط الإسلام السياسي بكافة تنوعاته في داخل وخارج السعودية يعني أن الرياض تعلن للعالم أن المنطقة، على الأقل بالمفاعيل السعودية، لن تكون بعد اليوم مصنعَ جهاديين تستخدمهم عواصم القرار الكبرى على رقعة “لعبة الأمم”.

وبالتالي فإن الرياض، ولأسباب سعودية خالصة لا ترتبط بتحالفات دولية ولا باستراتيجيات أمن استراتيجي كبرى، تقفل هذه الورشة العقائدية التنظيمية الثقافية العسكرية والأمنية، وتعيد المملكة إلى ما كانت عليه وإلى ما كان الإسلام فيها قبل ثورة الخميني ضد طهران، ومغامرة موسكو صوب كابل.

تقفل السعودية ملف الإسلام السياسي وهي مدركة أن عواصم إقليمية ما زالت إما ترعى أو ما زالت تعوّل عليه جواداً ما زال من الممكن المراهنة عليه في زمن ما ومكان ما. تقفل الرياض تلك الصنعة وهي تعرف أن دولاً قد تستمر في مزاولتها وتحرص على حماية خطوط الإنتاج لها. ومع ذلك فإن الخيارات التي يعبِّر عنها ولي العهد السعودي تتأسس على مفردات ومفاهيم ورؤى جديدة تحاكي لغة العصر ولهجات الحداثة التي لا تتوافق مع عقائد التشدد والماضوية التي حكمت يوميا المملكة وجعلتها من عاديات البلد وعاداته.

على ذلك فإن السعودية التي امتلكت إمكانات هائلة وفّرت لها سبل تصدير التشدد في كل العالم الإسلامي، هي نفس المملكة التي تملك هذه الأيام إمكانات هائلة لنشر الاعتدال والوسطية وقيم السلم والاستقرار والازدهار. ليس في الأمر منّة بل حاجة عضوية لصيانة التحوّلات الجارية داخل المملكة كما داخل المنطقة والعالم.

وعليه فإن لـ”الثورة” التي تجري في الرياض مفاعيل مباشرة على كافة دول العالم الإسلامي برمته. تلتحق السعودية بالإسلام المعتدل الذي تمارسه الأغلبية الساحقة داخل كتلة ديمغرافية باتت تفوق الـ1.6 مليار نسمة في العالم.

وتسحب السعودية نهائيا البساط من تحت أرجل كل المؤسسات التعليمية والثقافية والخيرية والدعوية التي كانت تنتشر في العالم لنفخ التشدد بالنسخ التي كانت مطلوبة. تعلن الرياض أنها لم تعد عنواناً لأي خلط بين السياسة والدين، وأنها لم تعد تعوّل على سنيّة سياسية تواجه من خلالها خطاب إيران المذهبي. فإذا ما كانت ولاية الفقيه في طهران تنهل مشروعيتها الدينية من تقديم نفسها ندا لمشروع سياسي ندّ ترفعه الرياض، فإن تلك الأخيرة تُسقط أي مشروع سياسي للدين، وتعيد رفع الدين متخلصاً من شوائب السياسة وحسابات الحكم.

قد تكون لخيارات الرياض الجديدة أسباب سعودية. بيد أن سقوط التطرف في المنطقة بات ضرورة لتحصين المسعى السعودي البيتي الراهن. وبالتالي فإن مصلحة الرياض كبيرة في تصدير الرؤى الجديدة التي تروج في الرياض لتضع حدوداً نهائية لرؤى متقادمة لطالما نفخت بها الرياض نفسها في العقود الأخيرة.