إذا ما قررت موسكو مباشرة ورشة ضبط إيران في سوريا، فيجب ألا ننسى أن بوتين ليس وحده وهو يستفيد جدا من ضغوط واشنطن ضد إيران، وأنه قد يحصد في الحقل السوري ثمار ما تواطأ العالم على فلاحته.
 

فجأة يُعلَن عن اجتماع أمني أميركي روسي إسرائيلي رفيع المستوى يبحث في مستقبل الوجود الإيراني في سوريا. فجأة يُكشف عن ورشة كبرى تفتح ملف التسوية السورية من بوابة النفوذ الإيراني في هذا البلد. فجأة بدا أن أحد مفاتيح الحلّ للأزمة الراهنة بين إيران والولايات المتحدة يكمن عمليا في تحقيق تقدم على طريق ضبط وتقليص حضور طهران داخل الساحة السورية.

بدت التسريبات حول مقايضة مقبلة همسا يؤسس لخارطة طريق يخطها أصحاب الشأن من أجل تحقيق مصالح تتقاطع في هذه اللحظة النادرة. ولئن تُرسمُ تلك الخارطة باجتماع يضم روسا وأميركيين في ضيافة إسرائيليين أواخر هذا الشهر، فذلك أن قماشة تلك الورشة تقوم على حرص موسكو وواشنطن على وضع استراتيجية عمادها الأول حماية إسرائيل.

بات الأمر معلنا في واشنطن كما في موسكو. الاجتماع سيعقد في القدس الغربية، يضم رؤساء مجلس الأمن القومي الأميركي جون بولتون، ونظيريه الروسي نيكولاي باتروشيف والإسرائيلي مئير بن شبات. وأن يحضر بولتون، الذي يقود التيار الصقوري المعادي لإيران داخل الإدارة الأميركية هذا الاجتماع مشاركا في وضع ما يراد له من ترتيبات في سوريا، فذلك يعني أن شرط تقييد نفوذ إيران في المنطقة، وفي سوريا خصوصا، بات قيد الإعداد والترتيب، بالشراكة الكاملة مع روسيا المفترض أنها حليف استراتيجي لدمشق.

الإعلان عن اجتماع كان بالإمكان، بسبب طابعه الأمني، أن يبقى طي الكتمان، هدفه إبلاغ طهران بشكل مباشر وجلي، أن العالم، بما في ذلك حليفها، ذاهب بجدية للتعامل مع السلوك الشاذ لإيران في العالم. ولئن تحدث وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، صاحب الشروط الـ12 الشهيرة، قبل أيام، عن استعداد بلاده للتفاوض مع طهران “دون شروط مسبقة” إذا ما قررت إيران أن تكون “دولة عادية”، فذلك أن نفوذ إيران خارج حدودها بات متقادما بعد أربعة عقود من حكم بمنطق الثورة بما يتناقض مع منطق الدولة.

أمر تلك الورشة الثلاثية يقلق إيران. أولا لأن الأمر يأتي تنفيذا لتفاهمات جرت على مستوى الرئيسين، الروسي، فلاديمير بوتين، والأميركي، دونالد ترامب، خلال اجتماعهما الشهير في هلسنكي (يوليو 2018). وثانيا لأن عنوان وقاعدة وأعمدة هذا الاجتماع تتأسس على كيفية العمل على ضمان أمن إسرائيل، بما يخصّب الاجتماع بجدية مستوحاة مما أبداه الروس والأميركيون، على الرغم من خلافاتهما الكبرى في ملفات دولية أخرى، من حرص على عدم التهاون بما من شأنه تهديد إسرائيل وما تراه من ضرورات لحماية أمنها.

لا تستجيب موسكو وواشنطن لمزاج عربي لطالما كرر المطالبة بخروج إيران من سوريا، بل لمزاج إسرائيل، وهنا قلق طهران.

يتأسس ذلك القلق على حقيقة أن روسيا لم تقارب الوضع السوري بالنسخة التي بدأت عسكريا (سبتمبر 2015) إلا بعد تفاهمات جرت بين بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. صحيح أن الجنرال قاسم سليماني هو من أبلغ موسكو بخطورة ما يتهدد نظام دمشق مناشدا الروس التدخل، وفق ما بات معروفا، إلا أن بوتين الذي التقط تلك اللحظة الدراماتيكية التي يعاني منها تحالف دمشق- طهران، لم يلتق آنذاك بنظيره الأميركي باراك أوباما في نيويورك لأخذ “بركة” واشنطن لخططه في سوريا، إلا بعدما نال مسعاه “بركة” إسرائيل قبل ذلك.

تراقب طهران الورشة الأميركية الروسية الإسرائيلية هذه الأيام، وهي التي راقبت بألم ذلك التواطؤ الروسي العلني الذي وفّر بيئة حاضنة للعمليات العسكرية الإسرائيلية، التي لا تنتهي، ضد مواقع إيران وميليشياتها في سوريا، كما ضد مواقع لنظام دمشق، كلما ارتأت تل أبيب أنها تمثل خطرا على أمن إسرائيل. لم توقف موسكو تلك الرعاية على الرغم من الأزمة الخطيرة في أعقاب حادثة إسقاط طائرة عسكرية روسية (سبتمبر 2018) بسبب مناورة خاطئة قامت بها المقاتلات الإسرائيلية في سماء السواحل السورية.

ضبط النفوذ الإيراني في سوريا هو مطلب إسرائيلي بامتياز، لكنه أيضا مطلب عربي، لطالما عبرت عنه منابر خليجية، سعودية خصوصا، كشرط من شروط الانخراط في ورشة التسوية السورية. والمطلب أميركي أوروبي أيضا قبل البدء في تعامل العالم الغربي مع مفردات انتهاء الحرب والشروع بعمليات إعادة الإعمار. لكن الأدهى أن ذلك المطلب هو روسي لم توار موسكو الجهر به كمقدمة لإنجاح المسعى الروسي في رعاية تسوية سياسية تحظى بدعم عربي وإقليمي ودولي.

في مايو من العام الماضي وفي أعقاب محادثات أجراها بوتين مع بشار الأسد في سوتشي، قال الرئيس الروسي “إننا ننطلق من أن الانتصارات الملموسة ونجاح الجيش السوري في محاربة الإرهاب وانطلاق المرحلة النشطة من العملية السياسية سيليها بدء انسحاب القوات المسلحة الأجنبية من الأراضي السورية”.

ولمن لم يفهم هذه الرسالة أوعز بوتين إلى مبعوثه إلى سوريا، ألكسندر لافرنتيف، أن يعطي تفسيرات لمن لم يستطع أن يقرأها جيدا. قال الأخير إن المقصود هو القوات الإيرانية وميليشيا حزب الله والقوات التركية والأميركية. قرأت إيران ذلك جيدا، ولاحظت كيف أن بوتين قد وضع وجودها، المفروض أنه شرعي بموجب اتفاق مع نظام دمشق، في نفس السلة مع وجود قوى أخرى، يفترض أن وجودها غير شرعي ولا يمر عبر البوابات الدمشقية.

ورغم رسائل بوتين الواضحة، إلا أنه لا يريد التفريط بالورقة الإيرانية مجانا. لوّح بشكل عام بضرورة خروج إيران ونفوذها، لكنه عاد لاحقا (أكتوبر 2018) ليؤكد أن بلاده “ليست مسؤولة عن إخراج القوات الإيرانية من سوريا”. فهم أولي الأمر أن روسيا لن تنخرط في جهد علني مباشر ضد الحضور الإيراني في سوريا دون أن يحصل بوتين بالمقابل على ما يطالب به في ملفات أخرى.

تسريبات الاجتماع الثلاثي الأميركي الروسي الإسرائيلي تحدثت عن خارطة طريق يتم من خلالها تعامل الغرب مع المقاربة الروسية لمستقبل سوريا، بما في ذلك التعامل مع نظام دمشق وفق صيغة للحل تكون المعارضة جزءا منها، والانخراط بالجهد المالي المطلوب لإعادة الإعمار، مقابل أن تقوم روسيا بالإشراف على عملية تؤدي إلى ضبط الوجود الإيراني من سوريا.

وعلى الرغم من أنه لم يتمّ الإفصاح عن حجم هذا الضبط، وما إذا كان يعني خروجا للنفوذ الإيراني من البلد، إلا أن العرض الذي تقدمه واشنطن يكسر محرما ويفصح عن استراتيجية أميركية – أوروبية عمادها الاعتراف بالدور الروسي في المستقبل السوري، وهو أمر لا يمكن إلا أن يرسم ابتسامة انتصار على وجه زعيم الكرملين.

ينفي الكرملين ما يشاع عن هذه المقايضة. بالمقابل ينقل عن مسؤول في البيت الأبيض في هذا الصدد أن “لا مستقبل للأسد في سوريا ولن يكون شريكا لإعادة إعمار يستفيد منها نظامه”. ومن الآن وحتى عقد اجتماع القدس الثلاثي ستكثر المواقف الممهدة للصفقة المتوخاة.

هل تملك موسكو القدرة على ضبط نفوذ إيران في سوريا؟ نعم، وتحركاتها في سوريا ضد تشكيلات العسكر والأمن الموالية لطهران باتت حديثا يوميا هناك. لكن السؤال هل تريد موسكو ذلك؟ الأمر تقرره طبيعة الصفقة المقبلة وما ستناله روسيا بالمقابل. وإذا ما قررت موسكو مباشرة ورشة ضبط إيران في سوريا، فيجب ألا ننسى أن بوتين ليس وحده وهو يستفيد جدا من ضغوط واشنطن- التي يعاندها العالم- ضد إيران، وأنه قد يحصد في الحقل السوري ثمار ما تواطأ العالم على فلاحته.