ليست هناك قضية سيادية مسلّمٌ بها في التاريخ اللبناني الحديث ولا قضية وطنية مُسلّم بها في هذا التاريخ السايكس بيكوي. لكن لا شك أن معيارا سياديا قويا موجودٌ يساعد دائماً في ضبط، إن لم يكن سيطرة الخارج الدائمة على الداخل، فعلى الأقل تكريس أدبيات سلوكية تُخفِّف من هذه السيطرة بمعنى أن المسيطِر الخارجي يراعيها كما المسيطَر عليه الداخلي. على مستوى الوطنية اللبنانية فهي ليست قضية واحدة، تماماً كالموضوع السيادي، وإنما تساعد على ضبط آداب الشطط اللاوطني.

 

هناك سياديون ووطنيون على الدوام في أي مجتمع. لغويا الأولى، أي السيادة، مصطلح قانوني سياسي، والثانية، أي الوطن، مصطلح قِيَمي سياسي. وأي مجتمع – دولة راسخة الجميع فيه نظريا سياديون ووطنيون. سأُدْخِل هنا تعبيرا سبق للتهكُّم الصراعي الداخلي اللبناني أن استحدثه منذ عقود طويلة وهو الوطنجي، وسأسمح لنفسي أن أستحدث، محاكاةً للقديم، مصطلح السيادجي، وكلاهما يعبران عن فئة، أقليةٍ طبعاً، محترفة لمهنتَيْ الوطنية والسيادية بالمعنى السلبي للكلمة.( يجب أن يسجّل المراقب أن التكوين المسيحي الإسلامي للبنان هو الآن عامل تلقائي مساعد للتوافق الأصيل على موضوع مدينة القدس، لكن هذا موضوع ليس مجاله هنا).

يدخل من يمكن تسميتهم إذنْ البعض السيادجي والوطنجي إلى عام 2018 وهم في أزمة. فلقد أتقن هذا البعض لسنوات طويلة عملية تحريض متبادلة ناجحة كانت ترفع شعار السيادية في وجه الوطنية وبالمقابل كان أخصامهم من داخل هذا البعض يرفعون شعار الوطنية مقابل السيادية.

أراقب (بشيء من التسلية) كيف يعاني اليوم على جهتي ما كان يُسمّى 14 و 8 آذار – ولا زال يحتمل التسمية إذا اعتبرنا الاستقطاب الإقليمي القائم – كيف يعاني بعض هؤلاء من تغيير وظيفة الكلام وانتقاله من اللغة الحرب أهلوية، السيادجية هنا الوطنجية هناك إلى وظيفة استقرارية، أي أولوية الاستقرار الذي يخفي تحالفات جديدة وطبعا صفقات جديدة. وأكرر أنني أتحدث عن جزء محترف تعبوي ومحدود على الجهتين اللبنانيتين وليس عن الجمهورَيْن طبعا وليس عن كل النخب المنخرطة.

يعجبني، وأعترف جدّيا بـ”الجميل”، كيف انتقلت اللغة السياسية بين رموز الطبقة السياسية من لغة تحريضية إلى لغة “نبيلة” للوئام حتى لو أن هذا الاستقرار اللبناني ممتلئ مع الأسف بتركيز “صفقاتي” لأنه من الصعب أن نطالب الطبقة االسياسية الفاعلة بأن يكون الاستقرار مرادفا لعدم الفساد.

هذا شيء وذاك شيء آخر، فالسلام في نظرها فرصة للمكاسب. وأكاد أقول أنه في باطنها تَعتبر المكاسب الصفقاتية هي الثمن، وليس فقط الفرصة، الذي “ندين” به لها كصانعة استقرار وليست في العمق سوى منفِّذة لا صانعة.

لا شك أن اللبنانيين في أغلبيتهم الصامتة أو الثرثارة يريدون وينحازون للاستقرار. لكن المشكلة هي في البعض من “وكلاء” الكلام السابقين الذين لا يريدون التكيّف الإرادي مع الوضع الجديد.

 اي ثغرة تستعيد هواء الصراع ستتحول إلى أوكسيجين لتجديد التحريض حسب ما يتقنه كل من هؤلاء في تقاليد المعسكر الذي ينتمون إليه وهو المعسكر الذي يشبه حتى إشعار آخر الثكنة المهجورة.

الصراعات لها اقتصادها

عندما انتهت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوڤياتي ( المنهار سلماً) صناعات ثقافية وسياسية وفنية بكاملها انهارت داخل أميركا أو توقفت. صناعات أفلام وكتب وإذاعات ومؤسسات وأنماط تجسس بل حتى أنماط علاقات سياسية واقتصادية وأحزاب تعطلت في البداية بفعل هذا التحول العالمي ثم اختفت مع الوقت إلا من الأرشيف.

لم نصل إلى هنا في لبنان. فالانقسام الإقليمي في ذروته، وهو انقسام مرجعي ومصالحي للمنسيين اللبنانيين ولغير المنسيين من الذين لا زالوا معتمَدين. لكن شيئا ما تغيّر. لم يغيِّر كل الأدوار ولكن الجميع يعيد التموضع وفاقيا أو صراعيا. مشكلة التموضع الصراعي أنه حاليا يحتاج إلى مخيلة أوسع. كان الأسهل وصار الأصعب إلى أن يتغيّر “الموسم” في نظر هؤلاء المتضررين.

هناك مشاكل تنتظر معسكر الوفاق المحلي فوق الإقليمي عام 2018. منها اختبار إمكان بعض القوى الأساسية في الواجهة أن تواصل تمثيل طائفيتها السياسية دون المتَّكأ التقليدي بل البنيوي للدعم الذي وُلِدت في رحمه: نحتاج طبعا إلى فيلم من أفلام المتخيّلات لنتصور سنيةً سياسية بلا السعودية (وشيعيةً سياسية بلا إيران والنظام السوري). هذا موضوع جدي جدا في مستقبل الحياة السياسية اللبنانية بعيدا الآن عن الكلام الاستقراري الرائج.

ومع أن الانتخابات ستجري في كل الطوائف ما عدا عند الشيعة الذين يمكن من اليوم للقوتين المسيطرتين على طائفيتهم السياسية أن تحدِّدا من الآن من سيأتي نواباً، إسما إسماً، في دوائر أغلبيتهما الطائفية لأسباب واضحة تتعلق بسيطرتهما الأمنية والعسكرية والإدارية والشعبية والمالية… مع ذلك الانتخابات موسم تفككي رائع لدى المسيحيين كالعادة لدى السنة مجددا ولدى الدروز جزئيا لكن “العرس الديموقراطي الشيعي” مؤجل في “الجيل” الحالي.( مع ذلك من المدهش أن الشيعية السياسية الحالية رغم كل قوتها لا تثق بترك الاقتراع في مناطق الإقامة دون تسجيل مسبق. قوة مطلقة وعدم ثقة مطلقة!!).

فَكْفِكْ تَتَدَقْرَط في أزمنة السلم. ونحن فيها كما ثبت دوليا وبمعايير قوية تساهم فيها إيران والسعودية (وإسرائيل ولو مرغَمة أو ربما تريد أن تعطينا هذا الانطباع لأسباب تعبوية بينما لها مصلحة في الاستقرار).

عام 2018 هو عام اختبار الطائفيات السياسية اللبنانية لمتغيرات المنطقة وثوابتها معا. هذه هي العادة لكن هذه المرة ثمة فعلا تحولات عنوانها الأول العودة التدريجية للسلم السوري وتحول سوريا النهائي إلى قاعدة روسية ثابتة وعنوانها الآخر تغيير ديناميكي في نمط الحكم السعودي يبدو وكأنه محاولة تجديد استراتيجي لبنية الدولة.

علينا أن نصدق أننا في زمن سلم في لبنان. حتى حروبنا الأهلية الباردة، وهي جزء من نظامنا السياسي، تتغير إلى وظائف أخرى.

ألحان الكلام المحلي تتغيّر. والقلق المركنتيلي اللبناني، بمعناه السيئ و الصحي، يحتاج إلى مخيلة (دقيقة) في اللغة السياسية. ولذلك أقترح على الذين يلاقون صعوبة في التكيف أن …..