هل يمكن أن يكون أمراً طبيعياً تبادل رئيس جمهورية سابق ورئيس أعلى سلطة قضائية حالي، اتّهامات قارصة ومريرة من نوع «الخيانة العظمى» و«انتهاك العدالة» و«التورّط في الفساد» وصولاً إلى التشكيك الفصيح بـ«الصحة العقلية»؟!

ذلك ما يجري في إيران هذه الأيام. وما تزخر به أدبيات التراشق المنفلت بين الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد ورئيس السلطة القضائية الحالي صادق لاريجاني.. وهو تراشق يسبق على ما يبدو، الخطوة التي يتوقّعها كثيرون، بزجّ نجاد في السجن بعد أن ذهب إلى هناك قبله، عدد من كبار مساعديه السابقين!

وقصّة نجاد هذه، تشبه قصص مَن سبقوه في «رئاسة» الدولة: بمجرّد أن يترك «منصبه» يصبح في موقع الضدّ. يستهدف ويُستهدَف وهو الذي كان يعرف، أنّه «موظّف» برتبة رئيس (حتى لو كان منتخباً!) وإنّ صلاحياته الرئاسية خارج شكليّاتها، تساوي الصفر إزاء القرار الذي يتحكّم به «المرشد الأعلى».. وإنّ «ملفّاته» مبنيّة بأحكام لمنعه لاحقاً من الاستطراد في تأكيد ما يعرفه العامّة والخاصّة والداخل والخارج من أنّ قضية الانتخابات كطريق إلى تداول السلطة في الجمهورية الإسلامية، ليست في أصلها ونتائجها سوى «طقس برّاني» لا تصل مفاعيله إلى أيّ مكان جدّي وحاسم، ولا تغيّر شيئاً في صناعة القرار والإمساك به، ولا تعدّل حرفاً في مدوّنة صلاحيات «الوليّ الفقيه» وأحكامه المُبرمة!

ومع ذلك، كان يمكن فهم بعض دواعي التراشق الراهن لو كان بين الأخصام تحت سقف «المرشد»، أي بين «المحافظين» و«الإصلاحيين».. لكنّه يجري داخل صفوف المنظومة المتشدّدة نفسها. وبما يشير إلى أزمة نظام أكثر من كونها أزمة أداء أو تنافس على مواقع السلطة.. وإنّ جذرها الأول هو غياب ما يمكن أن يتم التباهي به أمام عموم الإيرانيين، بعد نحو أربعة عقود من «الثورة»، على صعيد مستويات العيش والتنمية ومعدّلات النمو والأرقام العارية التي لا يمكن توفيرها (دائماً!) بالضخّ القومي والأداء الخارجي أو بدوام التعبئة الدينية.

وأحمدي نجاد مثال صارخ: كان في أقصى يمين المحافظين، و«مهدوي» تام. وجذريّ الانتماء إلى عصب الجمهورية. و«شوطاته» السياسية والبلاغية والغيبية وضعته في مكان مميّز وشديد الغرابة! لكنّه «نسيَ» الدرس الأول القائل إنه مجرّد موظّف انتهى دوره.. أراد الاستمرار وأخذ دور غيره فاصطدم بداية بالمرشد نفسه ولم يستوعب! ثم تناسلت تلك البداية في المراكز الأدنى وصولاً إلى رئيس السلطة القضائية، وإلى تحميله مسؤولية ازدياد حدّة الأزمات الاقتصادية والمالية التي ورثها الشيخ حسن روحاني، مع أنّ ذلك كان ولا يزال أمراً حتميّاً في ظل العقوبات الدولية المفروضة على إيران.

أحمدي نجاد متّهم الآن بـ«الجنون» وفقدان القدرة العقلية وبأنّه في حاجة ماسّة وسريعة إلى «علاج طبّي».. في حين أنّه هو يتّهم رئيس أعلى سلطة قضائية بـ«الفساد» ويدعّم اتّهامه بوثائق يلقي بعضها على الملأ! والعبرة: إثنان من كبار وجوه النظام يدلاّن الداخل والخارج على طبيعة المثال الذي يُراد، ويُعمل على تصدير أنواره! وبناء الدور المحوري والقطبي على أساساته!