«في زمن الاهتراء العربي يجب أن نتوقّع كل شيء... في هذا الزمن لا مجال للرهان على هَريان يضيع فيه التاريخ، وتتفكك الجغرافيا، وتذوب دول وتمحى حدود وتسرق أوطان»
 

هي صورة تلخّص واقعا عربيا هشّا، تائها عن قضاياه الصغرى والكبرى، وصانعا لحروبه وأزماته ومشغولا بنزواته. وليس مفاجئاً امام هذا الوَهن المريع، ان تذهب القدس وتطمس هويتها العربية الاسلامية والمسيحية، بل ليس مفاجئاً ان تذهب أمة العرب كلها، الى لا مكان تجده، ويصبح حال رعاتها كحال آخر ملوك الاندلس، الذي بكى وهو يغادرها ويتحسّر على ملكه وقصوره، فخاطبته أمه بكلمات قاسية وقالت له تلك الجملة الشهيرة: «إبكِ كالنساء ملكاً ضائعاً لم تدافع عنه كالرجال».

هي صورة يرسمها الرئيس نبيه بري، لِما آل اليه حال العرب، وتمثُل امامه تلك المقولة المعبرة «أُكلتُ يوم أكِل الثور الابيض»، لعلّ احداً ما يتذكرها او يقرأها من جديد، هذا اذا كانت القراءة تنفع بعد!

اعلن الرئيس الاميركي دونالد ترامب قرارته: «القدس عاصمة لإسرائيل»، فجاء من يقول في دنيا العرب: «انها مفاجأة، لقد أخذَنا ترامب على حين غرّة». المفاجىء هو ان يتفاجأ هؤلاء، فالمسألة ليست وليدة ساعتها، او هي ابنة لحظة تخلٍ ترامبية، إنها قرار عمره 23 سنة. وترامب نفسه تعهّد به في برنامجه الانتخابي.

وأمّا من يفترض انهم معنيون بمواجهته ومنع تمريره حفاظاً على فلسطين ورمزيتها وقضيتها وقدسها، فكانوا مُنصرفين الى ما هو أولى وأهم: «إضرام الحرائق في أنفسهم وتعميق الخلافات والانشقاقات في ما بينهم، وبينهم وبين الآخرين ولا فرق هنا بين صديق وشقيق».


«كان لا بد من دق ناقوس الخطر ولَفت العرب الى ما هو آت عليهم» يقول بري: «قبل نحو عام من الآن، وتحديداً في شباط 2017، رفعتُ الصوت في مؤتمر دعم الانتفاضة الفلسطينية في طهران وقلت انّ على القاصي والداني ان يعلم انّ إشعال الحرب في الشرق الاوسط يبدأ من فلسطين وينتهي بها... وانّ علينا ان نقتنع بأنّ احداً في اسرائيل لا يريد حلا سياسيا والممارسات الاحتلالية اليومية تؤشّر وتؤكد على ذلك، ونقل السفارة الاميركية من تل ابيب الى القدس أمر يشجّع اسرائيل على المزيد من القرارات الاستباقية، لذلك يجب ان نكون على استعداد عربي وإسلامي لمواجهة بحَجم هذه الخطوة تتمثّل بإغلاق السفارات في واشنطن، اذ انّ سفاراتنا لا تفعل شيئاً هناك سوى تَلقّي الاوامر الاميركية، ومثل هذا الكلام قاله بري لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس حيث اعتبر «انّ القرار الاميركي حول القدس هو ضد كل عربي ووطني وضد كل القرارات الدولية، وهو احتلال جديد لا يقلّ عن احتلال 1948، إنه يطال جميع المسلمين والمسيحيين».

المرحلة، في ظل ما استجَدّ، وكما يراها بري، «مرحلة عمل وجهد، وقد آن الاوان لنبعث الروح في قضيتنا وقراراتنا، ولنوقِف المجاملات وحرق الوقت.

ثمّة صورة ناصعة تَجلّت منذ اعلان ترامب قراره حول القدس، بهذه الفورة الشعبية الاعتراضية التي ظهرت على مستوى العالم وتُبشّر بأنّ القضية ما زالت حية في الوجدان، وتبشّر ايضاً بأنّ من شأن استمرارها وتصاعدها اكثر، ان يُعطّلا مفاعيل قرار ترامب، وهذا ما يجب ان يحصل».

الرهان الاساس في رأي بري، يبقى على «الوحدة، والتكاتف والتضامن، وها نحن في لبنان مَررنا بواحدة من أقسى التجارب السياسية التي كادت ترمي بلدنا في المجهول، واستطعنا بموقفنا الداخلي الموحّد والمتضامن ان نتجاوزها ونُنقذ بلدنا، وهكذا كنّا خلال عدوان تموز 2006.

وبالتالي وحدة العرب وتضامنهم ووحدة الفلسطينيين قبل كل الآخرين، من شأنها ان تبني الجدار الحامي لفلسطين وللقدس ولكل أمّة العرب... لكنّ المشكلة تبقى دائماً في بعض الاصوات وفي المحاولات التي يأتي بها البعض للتشويش والتخريب ومَنع بناء الوحدة والتضامن من ان يكتملا. وكما نخشى من أصوات النشاز هذه على لبنان نخشى منها على المنطقة وقضاياها».

والأهم كما يقول بري، هو أن تبقى الـ«لا» مرفوعة في وجه الاحتلال ورُعاته، وفي وجه أي محاولة لتغيير هوية القدس، ولا بد من ان يبقى دَوي هذه الـ«لا» كبيراً في أرجاء العالم.

فلا يتذرّع أحد بأنّ القرار الاميركي كان مفاجئاً، أبداً هو ليس كذلك، هو قرار عمره 23 سنة، ولقد سبق لترامب ان حَدّده في برنامجه الانتخابي وألزمَ نفسه به وها هو ينفذه... الوقت الآن ليس لدفن الرؤوس في الرمال، إنها لحظة تَوحّد عربي، أمام ما يعتقد الاميركيون والاسرائيليون ومن معهم، بأنها مقدّمة لـ«صفقة العصر». ولكن «مكروا ومكر الله والله خير الماكرين»، لم يكونوا يتوقعون هذا المستوى العالي والواسع من رد الفعل على قرار ترامب.

و«صفقة العصر» هذه معناها دفن فلسطين وقضيتها - يقول بري - وأقول على مسؤوليتي ووفق معلومات مؤكدة انهم كانوا بصدد هذه الصفقة، بحيث يُؤخَذ قسم من الضفة الغربية لا يتجاوز النصف ولا يقل عن الاربعين في المئة وغزة هي دولة فلسطين وعاصمتها «ابوديس» الواقعة بالقرب من القدس. ويفصل بينها وبين المدينة المقدسة الجدار الاسرائيلي الذي بَناه العدو. على وعد ان تمنح هذه الدولة المليارات لتنمية نفسها ومرافئها.

وطرحت هذه المسألة على محمود عباس فرفضها، عندها قالوا له إنهم سيتعاطون مع محمد دحلان... كل هذه الصفقة تأتي ترجمة واضحة لمشروع الشرق الاوسط الجديد كما ورد في كتاب شمعون بيريز في العام 1996، والجاري تنفيذه منذ ذلك الحين. المشكلة التي يعانيها العرب انّ احداً لا يقرأ، وأخشى ان اقول انّ احداً لا يريد ان يقرأ...».

صورة التحركات الشعبية على مستوى العالم تبعث على الامل، يقول بري، أمّا الصورة اللبنانية التي تجَلّت في الايام الاخيرة، ففيها الكثير من العبَر والدلالات، وخصوصاً ما عكسته الجلسة العامة التي عقدها مجلس النواب يوم الجمعة الفائت، فقد كانت جلسة تاريخية ونوعية، قلتُ فيها انا شخصياً ما هو مختصر ومفيد، وامّا سائر الزملاء المُنتمين الى كتَل وتوجهات سياسية مختلفة فظهروا جسماً واحداً، وظهرَ من خلالهم المجلس النيابي انه كان واحداً خَطب باسم الكل، وانّ الكل خَطبوا باسم واحد.

ماذا عن احتمالات الحرب، وهل يمكن ان يشعلها قرار ترامب، وهل يمكن ان يكون إشعالها لتغطيته؟ وماذا عن التوطين؟

إحتمال الحرب وارد دائماً في الذهن الاسرائيلي، الّا انّ بري يستبعده حالياً، ربما لأنّ العالم كله «فَايِع عليهم»، وربما لأنّ الحرب يمكن ان تُحبط ما يقومون به والهدف الذي يسعون الى تحقيقه، وامّا موضوع التوطين فقرارنا حاسم برفضه ومواجهته.

يبقى انّ لبنان الرسمي كان على علم بالقرار الاميركي حول القدس، حيث تم إبلاغه بذلك، عبر القنوات الديبلوماسية - ربما من خلال اتصال هاتفي وَرد من السفارة الاميركية في لبنان - قبل ساعات قليلة من إعلانه من قبل ترامب. فكان الرد اللبناني: انّ هذا القرار مرفوض.