توازي الصرخات التي أطلقت في حي السلّم أضعاف العقوبات التي ستُفرض على حزب الله. وصول حالات الاحتجاج إلى بيئة الحزب الحاضنة وجمهوره، هو أكثر ما يخشاه الحزب، الذي أثبتت التجربة أنه لا يخشى حرباً ولا اشتباكاً أو مواجهة، وهو الذي أصبحت لديه قدرة على التدخّل في شؤون أربع أو خمس دول. وفعلاً، إن حراك حيّ السلّم هو التحدّي الأكبر للحزب، في عدم تناميه وتصاعده، وفي ضرورة لجمه ولملمته، لأن خروج مجموعات موالية في أكثر الأحياء ولاء لتعلن صرختها المعيشية ربطاً بالوجع السوري، هو في الأساس تأكيد على رفض البيئة الضمني مشروع حزب الله السوري.

في الصرخات التي أطلقت، كانت الحرقة السورية حاضرة، حجم الخسائر التي لا يعتبر جمهور الحزب أنه حصل على ما يوازيها من مكتسبات. في مفهوم الحروب والصراعات ومراكمة الانتصارات، فإن المنتصر دوماً يفرض الشروط ويحقق المكتسبات. وهذا الواقع الذي لا ينطبق على بيئة حزب الله، التي تعيش منذ تأسيس الحزب على لغة الانتصار من دون الحصول على مردوده. تجلّى هذا المردود في مرحلة من المراحل، بالشعور بفائض القوة، وبالتعالي على الدولة بقانونها ومؤسساتها. لربما كان ذلك تعويضاً معنوياً عن عدم الحصول على المكتسبات بطريقة سلسة. أما وقد وصل الأمر إلى حدّ مكافحة الفساد أو إزالة التعديات، فهنا يبدأ بالنسبة إلى هذا الجمهور، عهد الهزيمة وليس الانتصار. والهزيمة هنا في أنه لم يعد قادراً على حماية ما يعتبره مصدر رزقه، بدون الإلتفات إليه إذا ما كان قانونياً أم لا.

وهنا تتجلى الترجمة الفعلية، للمعادلة التي انقلبت في أوساط المعلّقين، والذين اعتبروا أن بيئة الحزب انتقلت من "فدا إجر السيد" إلى شتائم أو احتجاجات، لتصبح المعادلة الحقيقية، هي أن الفداء يكون للقمة العيش أو لمصدر الرزق فقط. وبذلك كسر المحتجون حواجز كبيرة وهواجس أكبر، بوضع أنفسهم خارج منطق صراع حزب الله. رغم دينيته أو مذهبيته، أو أخذه إلى معنى الحرب الوجودية، وإعادته إلى أرض الواقع، إلى القتال في سبيل لقمة العيش. أراد هؤلاء، عن غير قصد ربما، القول إن المعارك التي يخوضها الحزب في سوريا وغيرها، لا تنسجم مع المعارك التي يريدونها هم في لبنان، والأساس فيها، الحصول على ماء وكهرباء وعمل... الخ.

يعلم حزب الله أن هذا النوع من الاحتجاجات هو أخطر بكثير من عقوبات العالم. فالعقوبات من شأنها شد العصب حوله، أما هذا النوع من الاحتجاجات فهو عامل انفضاض من حوله. كان الحزب يتوقع أن تحصل هكذا حراكات احتجاجية لدى كل الطوائف الأخرى، باستثنائه طائفته، بفعل ارتفاع أدرينالين الأيديولوجيا لدى بيئته، لكن ما حصل في حيّ السلّم قد يكون أسهم في تغيير المعادلة. ليس من الواقعي بعد مقاربة ما حصل في حي السلّم على أنه إنتفاضة أو ثورة كما يذهب بعض المتفائلين. هو احتجاج لحظوي على إجراءات اعتبرها البعض تعدّياً على حياتهم. وكذلك ليس صحيحاً ربما أن هؤلاء المحتجين يرغبون في تخطي القانون والحفاظ على المخالفات، لكنهم بحاجة إلى بديل. فلو توفّرت لديهم بدائل تفضي بإزالة المخالفات مقابل الحفاظ على حقوقهم فحينها ستنتفي حاجة الاحتجاج أو الإنتفاض.

يوقن حزب الله خطورة هذه المسائل. بل ينظر إليها بريبة أكبر في هذه المرحلة، خشية من استثمار البعض في هذه الاحتجاجات لتحقيق شرخ أوسع بينه وبين بيئته وجمهوره. وهذا ما ينكبّ على العمل في سبيل مواجهته، إذ بدأت مساعيه للملمة الوضع، والذي انعكس باعتذارات متتابعة. لكن الأكيد أن ما قيل قد قيل ووصل، وهو سيؤسس إلى مرحلة جديدة من التعاطي، مع هذه البيئة والجمهور.

الرسالة الأهم التي وجهها الناس بالأمس، هي أن العناوين الإقليمية والشعارات الكبرى، تأخذ في الإنحسار، مقابل تنامي ظاهرة المطالبة بالإهتمام بالتفاصيل اليومية الداخلية، وهي شكل جديد لمواجهة المتطلبات التي يحتاج إليها هذا الجمهور. وهذا ما سيفرض على الحزب بعض التغيير في حساباته ،لأنه لن يكون قادراً على إدارة ظهره لهذه المطالب. وهذا لا شك مسار جديد لوجهة الأمور لدى هذه البيئة، التي تفرض نظام أولويات جديد قد يختلف بين الجمهور وممثليه. والأهم من ذلك، أن هذه الحركة الاحتجاجية تأتي تزامناً مع عقوبات مالية أميركية على الحزب، وهي قد تؤثر على بيئته. وهذا ما قد يجرّ مزيداً من الاحتجاج.