يبدو أنّ لبنان قد دخل في حرب باردة على كل الجبهات الداخلية، وكل القوى السياسية تقف على حلبة مفخّخة بمجموعة من التناقضات والعناصر الصراعية المتعدّدة الألوان والأشكال، تساهم أكثر فأكثر في دفع البلد نحو التصعيد الأكبر
 

لمراقبُ للساحات والمحاور الداخلية المتعددة لهذه الحرب الباردة، ولمسار الاحداث وسرعة تواليها وحجم الانفعال والاحتدام السياسي حولها، يجد صعوبةً في فكّ ألغازها وفهم أسبابها ودوافع إثارتها ورميها دفعة واحدة على حلبة الاشتباك، بل تجعله يذهب بعيداً في الاستنتاج الى حدّ طرح السؤال الخطير: هل ثمّة مَن يحاول تحضير الأرضية اللبنانية لشيء ما؟

تلحظ بعض الإجابات احتمالين؛ الأول، تشوبه بعض الخطورة جراء الصورة القاتمة التي يرسمها لمرحلة حبلى بالتوترات مقدم عليها البلد، وتُنذر بسلبيات في مجالات وسياقات متعددة ومختلفة، وأخطر ما في الامر هو أن يكون إشعال فتائل الملفات الداخلية السياسية وغير السياسية بفعل فاعل قصداً وعن سابق تصوّر وتصميم، وبإيحاء خارجي له امتداداته الداخلية يدفع الواقع الداخلي نحو الاشتباك والتقاتل السياسي، وذلك ربطاً بما يهمس به في كثير من المجالس والصالونات السياسية عن هجوم من قوى إقليمية ودولية لإعادة إدخال لبنان في آتون يتجاوز الأسباب الداخلية للصراع، الى ما هو أخطر وأدهى.

وأما الإحتمال الثاني، فيحصر أسباب ودوافع هذه الحرب الباردة في النطاق الداخلي، ما يعني أنها قد تبقى مضبوطة وتحت السيطرة، فيما لو كانت متأتّية من ملفات الداخل وتناقضاته ومزايداته و«تمريكاته»، ومن السباق لتحقيق مكاسب ومغانم. فهذا الذي يجري حالياً هو جزء من الفولكلور السياسي اللبناني الذي يصعد ويهبط كلما دعت الحاجة الى ذلك.

وبحسب تلك الإجابات، فإنه على رغم أنّ الاحتمال الأوّل ليس مستبعداً ولا يمكن سحبُه من الحسبان، فحتى الآن لم يثبت أنه الإحتمال الأقوى، كما لم يثبت بالملموس أنّ أيّاً من الاطراف السياسية الداخلية يسعى في اتجاه تحقيق الهدف القاتل وتوظيف نفسه جسراً لعبور رياح إقليمية ودولية لإسقاط لبنان في المحظور من جديد، إلّا أنّ الاحتمال الثاني هو الأقرب الى الواقع لكنه بدوره مفتوح على تعقيدات داخلية.

ويبدو الإحتمال الثاني معزَّزاً بمجموعة التطورات التي توالت على المشهد الداخلي في الفترة الأخيرة وتمظهرت في الوقائع التالية:

- تطيير الانتخابات النيابية الفرعية بالتكافل والتضامن والشراكة بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، رغم ما تشكّله هذه الخطوة من مخالفة موصوفة وفاضحة للدستور. وبالتالي عدم القبول بالاعتراضات والملاحظات التي أبدتها أكثر من جهة سياسية على هذا الأمر وعلى عدم جواز مقاربة الدستور بحسب المصلحة ووفق الرغبات والأهواء، ولا بالأسئلة التي طرحتها كمثل: كيف لمَن يعلن جهاراً نهاراً التزامَه بالدستور أن يكون أوّلَ مَن يطيح بهذا الدستور عند أوّل مفترق، بل ويصمّ أذنيه أمام المطالبات المتكرّرة بالتقيّد بالدستور وبأحكام المادة 41 التي توجب إجراءَ تلك الانتخابات؟

- أجواء الفساد الذي سجّل مستويات قياسية، والنافر فيها أنها أشارت بالاصبع الى بعض «المحسوبين» و«المحظيّين» و«المحظوظين» ووضعتهم في قفص الاتهام، ربطاً بالعديد من الصفقات في كثير من القطاعات. وليس أقلّها صفقة بواخر الكهرباء والتموضع المريب فيها من قبل بعض القوى النافذة في الدولة وخصوصاً تلك التي تقدّم نفسها إصلاحية وتغييرية، رغم كل المخالفات والشوائب القانونية التي تعتريها، بالاضافة الى الشبهات الخطيرة حول اختلاساتٍ وعمولاتٍ بملايين الدولارات!

- إنتفاخ القلوب المليانة أكثر فأكثر بين بعبدا وعين التينة الى الحدّ الأقصى، وتجلّى ذلك قبل فترة قصيرة في ما رافق النقاش الإنتخابي الأخير وقبول التيار الوطني الحر بالتسجيل المسبَق للمنتشرين وعدم قبوله بالتسجيل للمقيمين، وكذلك في ما رافق طرح الرئيس نبيه بري تقصير ولاية المجلس النيابي وتقريب موعد الانتخابات النيابية على أساس القانون الجديد من أيار الى الشتاء المقبل، حيث تعمّد التيار الحرّ الى الرّد سلباً على اقتراح رئيس المجلس، وتظهير الطرح وكأنه موجَّهٌ ضد رئيس الجمهورية، علماً أنّ الغوص في هذا الطرح يبيّن أن لا صلة لرئيس الجمهورية به من قريب أو بعيد، بل إنّ وجهة الطرح تقنية - تقصيرية لولاية مجلسيّة ممدّدة بسبب بطاقة ممغنطة لن تُنجَز، وبالتالي ليست سياسية ولن تكون كذلك حتى ولو أصرّ البعض على تسييسها، هذا ما يُقال في عين التينة.

- قرار المجلس الدستوري الذي أبطل القانون الضريبي الموازي لقانون سلسلة الرتب والرواتب، والأزمة التي دخلت فيها الحكومة والمجلس النيابي في آن معاً، بالتوازي مع توتّر الشارع. المثير في هذا القرار، ليس فقط أنه فاجأ كل الوسط السياسي والاقتصادي والمالي وكل القطاعات، بل في اتّخاذه منصّةً للقصف السياسي من بعبدا في اتّجاه عين التينة، حيث تقصّد فريق رئيس الجمهورية الترويج بأنّ قرار المجلس الدستوري أنصف رئيس الجمهورية بتكرار ما قاله الرئيس في التاسع عشر من تموز الماضي بأنّ هذا القانون صدر في غياب الموازنة، وفي الوقت ذاته تقصّد أيضاً إلقاء الملامة على الرئيس بري حينما روّج إعلامياً ما حرفيّته «للمزيد من إنعاش الذاكرة حول هذا الموضوع لا بد من التنبيه الى أنّ رئيس المجلس النيابي هو مَن كان مصرّاً على إقرار السلسلة قبل الموازنة».

واللافت للانتباه أنّ فريق الرئيس لم يُشر من قريب أو بعيد الى أنّ نواب تكتل الإصلاح والتغيير كانوا من بين النواب الذين صوّتوا مع قانون الضرائب في جلسة إقراره ولم يعارضوه! وربما أنّ هذا الاستثمار لقرار المجلس الدستوري، اضافة الى أسباب أخرى ومعطيات، هي التي دفعت بري الى أن يبقّ البحصة ويغمز من خلفية القرار ويقول «إنّ حُكْم المجلس الدستوري لم تأتِ به الملائكة».

- لقاء وزير الخارجية جبران باسيل، وبناءً على طلبه، بوزير الخارجية السوري وليد المعلم، الذي شكّل صاعقَ تفجير للعلاقة بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل، حيث لم يكن موقف الوزير نهاد المشنوق مجرّد طبقة صوت عالية اعتراضاً على هذا اللقاء، بل في سياقٍ أكمله تيار المستقبل وأدرج اللقاء في سياق محاولة لاستدراج لبنان لضمّه الى محور إيران والنظام السوري.

فيما يبرّر التيار الوطني الحر اللقاء بالخطوة السليمة التي تقول بأنّ أقرب وأقصر الطرق للتخفيف من عبء النازحين السوريين هو الكلام المباشر مع النظام السوري. وليس انتظار الأمم المتحدة على نحو ما أعلن الحريري نفسه.

واضحٌ أنّ بابَ الاشتباك ما زال مفتوحاً بين التيارَين على شتى الاحتمالات. وإذا كان ثمّة مَن يقول إنّ الطرفين محكومان بمعادلة الاستمرار بالتسوية السياسية التي أوصلت عون الى رئاسة الجمهورية، وبتفاهمات جبران ونادر التي صيغت الى جانبها، فإنّ ثمّة مَن يقول في المقابل إذا بلغت الأمور حدّ الاشتباك بين التيارَين حول الأمور المصيرية والاستراتيجية فأولى الضحايا هي المصالح التكتيكية بينهما.

- إهتزاز الوضع الحكومي الى الحدّ الأعلى، جراء جملة اعتبارات أهمها قرار الدستوري والإرباك الحاصل حالياً، والمترافق مع ضغط الشارع على الحكومة، زيارات الوزراء الى دمشق، لقاء باسيل - المعلم، الصفقات، العجز عن مقاربة الأولويّات والملفات الملحّة. والانقسام حول الجرود وهويّة المنتصر على الإرهاب فيها، وصولاً الى التحقيق الرئاسي في أحداث عرسال 2014.

لاشكّ أنّ قوى سياسية تتمنّى وترغب في تطيير الحكومة وسقوطها أمس، قبل اليوم، ولكن على ضعفها هي أقوى من أن تسقط، وهذا ما تؤكّد عليه مكوّناتها الأساسية، خصوصاً أنها «حكومة الضرورة»، أو حكومة الوضع الانتقالي حتى الانتخابات النيابية المقبلة ولا بديل عنها. علماً أنّ البديل عنها في هذا الجوّ هو الفوضى، والفوضى عبارة عن صندوق أسود يحتوي على كثير من المفاجآت من ذات اللون الأسود.

الى أين تسير الأمور؟

على ما يقدّر مرجعٌ سياسي، فإنّ كل هذه الارتجاجات والاختلافات والتوترات الداخلية السالفة الذكر وغيرها الذي قد يطرأ في أيّ وقت، آيلة لمزيد من التفاقم وللاشتعال.

الأزمات تستعصي، والانتخابات النيابية لم تعد بعيدة، وبالتالي ما يُخشى منه هو أن يلعب البعض قصداً أو عن غير قصد لعبةً خطيرة تهيّئ الأجواء لتوترات كبرى في المرحلة المقبلة لا تطيح بالحكومة فقط، بل تهدّد الاستقرار السياسي وتضع مصير الانتخابات النيابية المقبلة في دائرة الخطر.