وحده مشروع موسى الصدر من سينتهي إليه الجميع في يوم من أيام للخلاص النهائي
 


أكثر ما يثير الجدل في شخصية السيد موسى الصدر أنه كيف إستطاع هذا الرجل الذي جاء من إيران ذات الغالبية الفارسية أن يكون  عربيا في التفكير والهم والرؤية.
إشارة مهمة توقف عندها الكثير من المراقبين الذين حللوا شخصية الإمام المغيب وتوصلوا إلى إستنتاجات مختلفة.
فمنهم من أرجع الأمر إلى المصلحة في العمل السياسي وتعارضها حينها مع شاه إيران منافس العرب الأول على الزعامة في الشرق الأوسط ومنهم من أرجعها لأمور أخرى.
لكن شخصية السيد موسى كانت مزيجا رائعا بين عدة أبعاد إستطاع توضيبها وتنظيمها في مشروع واحد للمصلحة العامة.
فهو شيعي متحرر إلى أبعد الحدود ومتمسك بأصول مذهبه ووطني متطرف في حبه للبنان، ذاك التطرف الجميل البعيد عن الأحقاد العنصرية والمناطقية، وعروبي من الطراز الرفيع الذي لا يبيع الناس شعارات فارغة لا تتطابق مع أرض الواقع.

إقرأ أيضا : موسى الصدر... رجل الدولة والكيان
هذه السمات كانت مفردات صلبة في قاموس موسى الصدر السياسي وإستطاع من خلالها التوفيق بين مشروعين متطرفين في لبنان حينها، بين يسار ذات أغلبية إسلامية لم يتخلص بعد من نغمة الوحدة مع سوريا ويمين ذات أغلبية مسيحية متعلق بجذور التاريخ والعرق الفينيقي.
بين هذين المشروعين، إستطاع الصدر خلق خلطة " عجيبة " أثبتت نجاحها فيما بعد ولو بشكل نسبي ومزجت بين التشيع وهموم الشيعة في وطنهم والنظرة إلى الكيان والدولة والوطن ومشاركة العرب همومهم.

إقرأ أيضا : موسى الصدر... الإمام الواقعي في زمن الشعارات الزائفة

التشيع ذات الجذور العربية الراسخة لأجل لبنان :

نظر الإمام موسى الصدر إلى التشيع على أنه حركة رفض تاريخية للظلم ورفض إعتبارها مذهبا أو دينا نقيضا للإسلام، لذلك عمل دائما على التقريب بين الشيعة والسنة والتركيز على النقاط المشتركة بينهما ليزيل الهواجس التاريخية والمتراكمة.
ورفض إعتبار الشيعة مواطنون من الدرجة الثانية وطالب بالعدالة لكنه أيضا رفض أن يصل الشيعة إلى حالة يشعرون فيها بالتفوق والغرور أو أن يطالبوا بالإنشقاق عن الدولة.
ولتحقيق هذا الهدف، ركز الصدر في معظم خطاباته على تضحيات الشيعة لأجل لبنان وذكرياتهم في هذا الوطن ليكرس الهوية الوطنية في وعيهم ويقطع الطريق على أي إستغلال خارجي لمطالبهم وحقوقهم من الدولة اللبنانية.
ولأن الشيعة هم مسلمون أولا وأخيرا فكان من الطبيعي أن يكون لدى أكثريتهم حبا وعشقا للوحدة مع سوريا ورفضا للفكرة اللبنانية وهذه من أحد أسباب الحرمان الذي كان يعاني منه الشيعة.
فهم لطالما أرادوا الوحدة مع سوريا - السنة أيضا -  ورفضوا الإعتراف بالوطن اللبناني، لكن بعد الإستقلال بدأت تتبلور الهويات الوطنية في المنطقة وتنشأ فكرة الدولة ذات الحدود والسيادة ومصطلحات المواطن والمواطنة، ومعها بدأت تنمو الهوية الوطنية الشيعية لتنضج لاحقا على أيدي الإمام الصدر.
فأصبح الشيعة ومن خلفهم السيد موسى يؤمنون بفكر لبنان وطن نهائي لجميع بنيه مع مشاركة العرب همومهم وهواجسهم، شرط أن لا تكون هذه الهواجس على حساب مصالح الدولة اللبنانية.

إقرأ أيضا : كفروا شريعتي وخوّنوا موسى الصدر

 

القضية الفلسطينية :

وكان في مقدمة هموم العرب حينها القضية الفلسطينية التي دعمها وأيدها الإمام الصدر لكنه على عكس ما أسماهم الإمام " تجار اليسار " إنتقدها من أجل مصلحتها.
ففي الوقت الذي كان الصدر يدعم إعلاميا ودينيا وسياسيا الثورة الفلسطينية وقضيتها ويشارك أبناء منظمته الناشئة حديثا حينها " أمل " ببعض المعارك مع " فتح "، كان الإمام لا يجد حرجا في إنتقادها والتحذير من بعض الأفعال القبيحة التي كان يمارسها البعض من الفلسطينيين في الجنوب ولبنان.
بل رفض الإمام الصدر نظرية تقول " لأنها مقاومة فهي دائما على حق بكل ما تفعله " فوجهها وأرشدها إلى الطريق الصحيح والأسلوب الصحيح في العمل المقاوم وإنتقد في وقت من الأوقات إستخدام الصاروخ لأنه ليس من عمل المقاومة بل من عمل السياسة وقال كلمته الشهيرة حينها :" الصاروخ مش عمل فدائي ".
أمام هذا الواقع المعقد، دعا السيد موسى إلى عدم إستغلال صوابية وأحقية القضية الفلسطينية للمتاجرة بقضية الجنوب اللبناني، وتوجه للعرب مطالبا إياهم بفتح جميع الجبهات لقتال إسرائيل لا فقط جبهة الجنوب اللبناني لأن الجنوب لن يقاتل عن العرب جميعا .

إقرأ أيضا : موسى الصدر... حكاية..!
دعوة الإمام الصدر لم تكن عبثا بل كان يدرك أن أبناء الجنوب والبقاع وكل لبنان  يقاتلون إسرائيل والعرب يفاوضون على دمائهم، لذلك لم تحرجه أحقية القضية الفلسطينية في أن يولي مصلحة أبناء بلده الأولوية والإهتمام على مصالح وصفقات زعماء العرب وقضاياهم، وهذه هي الوطنية والعروبة  التي مارسها موسى الصدر.
فعندما كان يجد أن العروبة وقضيتها الأم ستتحول إلى سبب للنزاع بين أبناء الوطن كان ينتقدها ويتحالف مع أبناء وطنه، لأنه بذلك شعر الإمام الصدر أنه يقدم أكبر خدمة لفلسطين ولبنان في الآن معا.
إنطلاقا من هذا الفهم للعروبة والوطن، رفض موسى الصدر أن يرتبط مصير الشيعة بأي دولة دينية شيعية في العالم أو أن تكون المصلحة الدينية المشتركة على حساب المصلحة الوطنية.

إقرأ أيضا : كيف أختطف الإمام موسى الصدر ؟ 
ورفض أن تكون قضايا النضال والحرية حول العالم أولوية على حساب الحرمان في لبنان، فالأولى كان بنظره دائما لبنان الهوية والوطن والكيان ودعا للتمسك بأدوات الدولة من جيش ومؤسسات وقوى أمن لأجل مستقبل جميل لجميع بنيه وتراجع عن دعوات حمل السلاح عندما وجد أن التطبيق خاطىء، لكن هذا المستقبل للآسف لم يأت وقته بعد، فالتاريخ لا زال يعيد نفسه ، وما حذر منه الإمام وقعنا فيه اليوم.
وحده المشهد في 31 آب من كل عام من يذكرنا بأنه في تاريخ لبنان كان هناك رجل يدعى موسى الصدر، جاء بغرابة ومارس السياسة بغرابة وإختفى بغرابة.
لكن وحده الأمل من يشفع لدى محبيه ومؤيديه بأن أفكاره وكلماته ومشروعه هو خلاص للشيعة ولبنان في أي زمان ومكان، فقد تنتصر مشاريع وتخسر أخرى ويذهب رجال ويأتي آخرون وتسقط نظريات في الحكم وتزدهر أخرى لكن وحده مشروع موسى الصدر من سينتهي إليه الجميع في يوم من الأيام  للخلاص النهائي .