تبقى جدلية الدولة والكيان والحياد الإيجابي ومصطلحات الوجود السياسي للوطن اللبناني مستمرة منذ تبلور فكرة الوطن والمواطنية اللبنانية بدءا من الأمير فخر الدين الثاني وحتى يومنا هذا.

في أوائل الستينات دخل إلى الساحة السياسية اللبنانية موسى الصدر قادما من إيران ومكث في البلد حتى إختفائه بشكل مفاجىء في 31 آب عام 1978.

أحدث الرجل بلبلة وحيرة وصدمة في المشهد اللبناني لا تزال تداعياتها إلى اليوم مستمرة، وجزء من هذه البلبلة والحيرة يعود إلى عدم دراسة الرجل وسيرته بأسلوب علمي موضوعي بعيدا عن المشاعر والاحكام المسبقة ما أنتج سوء حكم على الرجل من جهة وإستغلال سيء لمشروعه من جهة أخرى.

ومن النقاط المثيرة للجدل والتي لم تأخذ حيزا واسعا من البحث والنقاش هو نظرة الرجل للكيان اللبناني والدولة وشكل النظام.
 

معضلة الكيان تمس الوجود لا الحدود فقط:
 

قبيل الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 عاش لبنان مرحلة من الجدال الفكري والفلسفي الذي وصل في بعض الأحيان لحدود سريالية ونستولوجية لا تحاكي الواقعية والبيئة السياسية والمكونات اللبنانية.

كان لبنان منقسما بين يسار يؤمن بشعارات القومية والوحدة العربية ويمين يؤمن بالكيان اللبناني وحدود ال 10452 كلم2 كما عبر عن ذلك الرئيس السابق بشير الجميل.

وأمام الإختلاف الحاد على وجه لبنان وهويته إنقسم البلد ودخل الحرب الأهلية وكانت قضية الكيان أحد أهم أسباب الحرب الأهلية.

كان السيد موسى الصدر رجلا براغماتيا معتدلا لا راديكاليا متطرفا وخياليا ولا غارقا في وحول الشعارات الزائفة التي لا تمس الوجود وتشعر بنبضه.

أدرك هواجس اليمين وتفهم مخاوف اليسار وقدم طرحا وسطيا معتدلا يحاكي تطلعات الشعب اللبناني بأكمله.

فكان إفصاحه عن إيمانه بنهائية الكيان اللبناني زلزالا وقع على الجميع وخصوصا اليسار كون الفكرة مقربة من أحاسيس اليمين لكنه أردفها لاحقا بفكرة عروبة لبنان ومشاركة الوطن بأوجاع وآلام الشعب العربي.

وأعطى الشيعة في الحياة السياسية اللبنانية مفتاحا للتخلص من المظلومية التي ترافق وعيهم عبر أزقة التاريخ ليقدم لهم خلاصا منها عبر التمسك بأرض الوطن والإيمان بنهائيته وعدم الدخول في مشاريع غريبة ومعادية لمصلحة الإجماع الوطني.

وربط بين الوطن والوجود الشيعي من خلال إضفاء صبغة القدسية على لبنان بأنه " هبة الله" والتقارب مع المكونات الأخرى " التعايش الإسلامي -المسيحي"  و " الوحدة الإسلامية".

فمن خلال هذه المفاهيم الثلاث قدم الإمام الصدر الوطن على أنه ساحة للجميع للتقارب والإلتقاء وهو أكبر من حدود، هو مبرر للوجود.
 

الدولة تحمي الجميع:
 

ولم تكن الدولة وسيلة للإكتساب وتجميع نقاط للقوة للدوس على الغير ولم تكن أيضا غاية بحجم حلم أو مستحيل بل كانت مشروعا وهدفا حقيقيا في فكر الصدر.

فعندما طرح مشروعه الخاص لمقاومة إسرائيل، لم تكن دعواه إلا بعد تقصير وجده من قبل الدولة اللبنانية، وهذا التقصير يبرره أبناء الدولة بتواجد منظمة فتح في الجنوب وأزمة الفدائيين الفلسطينيين وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة التبرير فالتقصير كان موجودا والخطر كان قائما.

لكن مع هذا كان الصدر يمتلك من الجرأة ما يجعله يتراجع عن شعاره:" السلاح زينة الرجال" عندما كان يشعر بأن هذا السلاح يهدد السلم الأهلي الداخلي وكان يعبر دائما أن دعوته لحمل السلاح كانت " عابرة" ولم تكن دائمة، أي أن حمل السلاح والمقاومة عندما تتحول إلى مشروع خاص لتدمير الدولة أو عرقلة بنائها وقيامها كان يلجم من إندفاعتها ويسكنها بالهوية الوطنية والتمسك بالدولة أكثر.

وأصر الإمام الصدر على تقوية الدولة وتسليح الجيش ودعاه للدخول إلى الجنوب اللبناني لأن الدولة وحدها القادرة على حماية الجميع ومعاملتهم بسواء إذا توفر شرط أساسي هو هوية ملائمة لهذه الدولة أو شكل النظام وإيديولوجيته المناسبة.

فتبنى هوية النظام المؤمن أو نظام" الله" البعيد عن الطائفية والعلمانية لكنه طرح غير واقعي ويحتمل بعدا خياليا واسعا لا يمت للواقعية بصلة.

لكنه مع نقطة الضعف هذه بقي متمسكا بإزالة أي شكل من أشكال الطائفية السياسية ودعا إلى توحيد قانون الأحوال الشخصية وتمسك بالمواطنية لذلك فهو ليس بعيدا عن أدبيات الدولة المدنية حتى لو لم يقر بذلك حرفيا.
 

الهدنة والحياد:
 

لا تزال الهدنة مع إسرائيل تثير الريبة والخوف لدى الأوساط النخبوية والسياسية اللبنانية ويخون من يطالب بها على الرغم من أنها أقرت بإتفاق الطائف عام 1989 ونعيشها اليوم بشكل تقريبي نتيجة القرار 1701.

وسبب الريبة هو عدم التمييز بين السلام مع إسرائيل والهدنة معها، وكلا الأمرين مختلفين.

أما السيد موسى الصدر فلم يكن حادا في تبنيه لشكل من أشكال الهدنة مع إسرائيل وتحقيق الأمن والأمان لسكان الجنوب اللبناني.

وكانت دعوته بعدم قبوله أن تبقى جبهة الجنوب مفتوحة وباقي الجبهات العربية مغلقة بوجه الإحتلال الإسرائيلي زلزالا آخرا كانت كما يعبر كثر أحد أهم أسباب إختطافه لاحقا ليس بسبب حب من خطفه للقتال مع إسرائيل بل لخوفهم من دعوته التي تغلق الأبواب أمام الأنظمة العربية التي تدعي الممانعة والمقاومة للمتاجرة بدماء الجنوبيين فيما بلادهم تعيش الأمن والأمان جراء الهدن التي وقعوها مع إسرائيل.

وقضية أخرى كان لها نصيب في الجدال الفكري اللبناني هي قضية الحياد تجاه قضايا المنطقة العربية.

ولكن الصدر لم يكن بوارد تبني هذا الطرح بل تمسك بتحرير فلسطين ومساعدة الثورة الفلسطينية، لكنه رفض أن يتم ذلك على حساب المصلحة الوطنية.

رفض أن تكون قضية فلسطين أو أي قضية حق في العالم مبررا لتناسي مطالب المحرومين وقضايا المجتمع أو أن تكون سببا لخلق دويلات وميليشيات داخل الجمهورية اللبنانية لإضعاف الدولة وتهميش حقها في إتخاذ قرار السلم والحرب.

فالحياد الذي يمكن فهمه في مشروع الإمام قائم على تحديد الأولويات وأهمها لبنان الوطن والكيان والدولة وبناء المجتمع الصالح والدولة القوية ومن بعدها النظر ومساعدة قضايا المنطقة والعالم بالقانون والديبلوماسية وعبر أقنية الدولة اللبنانية.
 

غياب تام لمشروعه:
 

واليوم لو أردنا تلخيص نظرة الإمام موسى الصدر للدولة والكيان فيمكننا الحكم بأنها نظرة وأمل بوطن نهائي لجميع اللبنانيين ودولة مدنية قائمة على أسس المواطنية والهوية والإنتماء الوطني ومجتمع صالح بعيد عن الحرمان والفساد والمحسوبيات.

الوطن الذي حلم به الرجل هو وطن الجميع يسوده نظام وقانون ودستور وفيه محاسبة وشفافية ويحقق العدالة الإجتماعية ويزيل الحرمان على مستوى الفهم والوعي الشيعي خصوصا إتجاه قضية الوطن والدولة.

فلنقارن ما بين نظرة موسى الصدر وواقع لبنان اليوم ولنفكر قليلا بل كثيرا وبعمق ونجيب عن السؤال المؤلم والموجع:

 هل مشروعه حاضر بيننا أو أنه معه خلف قضبان السجن؟