يوم أصبح القرار الدولي 598 نافذاً، والذي يقضي في وقف حرب الخليج الأولى، الإيرانية العراقية، خرج قائد الثورة الإسلامية في إيران الإمام الخميني معلناً أنه أجبر على تجرّع كأس السم. كانت حرب الخليج إحدى أطول حروب القرن العشرين، قادت إلى تحولات سياسية واستراتيجية كبرى في المنطقة، ليس المجال هنا لسردها أو نقاشها. كذلك، فإن الحرب السورية، التي بدأت ثورة وتعسكرت، تشكّل إحدى أطول حروب القرن الواحد والعشرين. هذه الحرب التي دخلت فيها عوامل إقليمية ودولية، وتحولت إلى صراع على النفوذ في الشرق الأوسط، ستنتهي بإرساء متغيرات استراتيجية كبرى.

وفيما بدأ النقاش بشأن ظروف الحلّ السياسي ووقف إطلاق النار وتثبيت مناطق خفض التصعيد، فإن ذلك يطرح سؤالاً جوهرياً عن دور حزب الله بعد هذه الحرب، من باب انتهاء الخطر الإرهابي العسكري والميداني على الحدود اللبنانية السورية. يفرض هذه السؤال نفسه بقوة، وتتفرع منه أسئلة كثيرة عن المرحلة التالية، ولكن الأكيد أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، لن يخرج ليعلن تجرّع كأس السم، إذا ما توصلت الإتفاقات إلى إنسحاب الحزب من سوريا. لديه ما يبرر إنسحابه، وهو أن الحزب أنجز المهمة التي دخل الصراع لأجلها.

تاريخياً، عند حصول تطورات إقليمية ودولية، كان حزب الله يكيف موقعه وفق المتغيرات. فمثلاً، بعد اتفاق الطائف، كان موجوداً على خطوط التماس، وبعد إقرار الاتفاق أعلن تكيفه معه والإنسحاب عن خطوط التماس، رغم أنه كان يعارضه. وقال حينها إن لديه ملاحظات على الاتفاق، ولكنه التزم بتطبيق مفاعيله، وشارك في الانتخابات النيابية، والتزم بقرارات الحكومة اللبنانية، لكنه احتفظ بمخرج لنفسه وهو مقاومة إسرائيل، التي عمل عليها تحت غطاء الدولة وكنفها، دوره في المقاومة كان مغطّى عبر تفاهم نيسان.

وبعد انسحاب العدو الإسرائيلي في أيار العام 2000، بقي حزب الله على نهج المقاومة، لكنه لم يخرق الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة. أما في العام 2006، فقد خطف الأسرى في عملية خرقت الخطّ الأزرق وكان عنوانها تحرير الأسرى. وبعد القرار 1701، لا يزال حزب الله ملتزماً قواعد الاشتباك، في عمليات ردّه على الضربات الإسرائيلية التي تلقاها في سوريا وأبرزها الرد على اغتيال القائد العسكري مصطفى بدرالدين.

أما بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري، فدخل حزب الله الحكومة اللبنانية. وهذا أيضاً كان تحولاً محورياً في سياسته وتوحهاته السياسية. وتوسع دوره الإقليمي والدولي، في لحظة كانت المنطقة بأسرها تشهد متغيرات كبرى، وعلى هذا الأساس شارك في الحرب السورية، إذ استغل سيولة الحدود، ودخل إلى سوريا بذريعة مواجهة الإرهاب، مستنداً إلى دخول أطراف أخرى الصراع السوري. وكانت هذه خطوة كبرى في لحظة متغيرات إقليمية ودولية. وفي تلك اللحظة لم يستطع أي طرف الوقوف في وجهه.

اليوم، يقف لبنان أمام إنهاء الخطر الإرهابي المباشر. وانطلاقاً من تشبيه نصرالله ما يحصل في الجرود باتحرير الجنوب في العام 2000 من الاحتلال، إذ أبقى الحزب ذريعة لاستمرار المقاومة حتى تحرير مزارع شبعا، وبهدف حماية لبنان أمنياً وليس عسكرياً فحسب، ثمة نقاش جدّي يجب يُفتح في هذه المرحلة، بعد زوال الأسباب التي دخل الحزب على أساسها إلى سوريا. بالتالي، فإن ذلك يفرض على الحزب إعادة التفكير في دوره، خارج لبنان، لأن هذا الدور، بعد سقوط مبرره، يعني مزيداً من التداعيات السلبية على الوضع اللبناني.

لا شك في أن الأوضاع في سوريا تذهب نحو مرحلة جديدة، وفق ما يقول الحزب والنظام والعالم. ما يفرض على الحزب إعادة البحث بدوره المحلي والإقليمي، أي دراسة احتمال عودة الحزب من سوريا. هذا النقاش قد يعتبر ترفاً في مكان ما، لأن اتخاذ أي قرار من هذا النوع، تفرضه معطيات وتحولات إقليمية ودولية. وهذه إذا ما حصلت، سيكون لدى حزب الله القدرة على التكيف مع الواقع الجديد، إذا ما حصل متغير كبير في المنطقة، وحينها سيكون قادراً على القول إنه أنجز المهمات التي دخل لأجلها إلى سوريا. وهذا المبرر سيكون مقدّما للجمهور.

يكرر نصرالله أن الحزب أنجز المهمات. وفي السياسة يعنى ذلك التمهيد لمرحلة مقبلة قد تحمل العودة من سوريا، إذ انتقل النقاش من "سنكون حيث يجب أن نكون" إلى فكرة أخرى، لخّصها نصرالله بإعلان التحرير الثاني. ولكن، ما الثمن الذي يريد حزب الله تحصيله في خضم هذه المتغيرات؟ لا شكفي  أن أي تغيير في جوهر النظام اللبناني وبنيته، مسألة مستحيلة، والتركيبة اللبنانية بطبيعتها تمنع السيطرة المطلقة لطرف على آخر، حتى لو مال الميزان ورجح لمصلحة محور على آخر، لكن التركيبة السلطوية لا تكتمل، بلا المكونات الأخرى وإن كان الخلاف هو الذي يحكم ويفصل بين الطرفين.

قد يُفرض نقاش على حزب الله في لبنان، كما فُرض النقاش بشأن الإستراتيجية الدفاعية في فترة من الفترات. فالثمن السياسي التي يريد حزب الله العمل على تكريسه في المرحلة المقبلة، هو إعادة تطبيع العلاقات بين لبنان وسوريا، أو إعادة النظام السوري إلى لبنان، ليس عسكرياً بالطبع بل بالنفوذ السياسي والمعنوي. وبذلك، سيتجلى انتصار الحزب على الأفرقاء الآخرين في الداخل، وانتصار المحور الذي ينتمي إليه إقليمياً. وهذا ما بدأ يظهر من خلال مواقف نصرالله الداعية إلى ضرورة التنسيق مع النظام، ونسب معظم الانجازات التي تحققت له. وهذا ما يصب في خانة الدفع لإعادة وصل ما انقطع عبر البدء بزيارات مسؤولين رسميين إلى سوريا.