بتاريخ 14 تموز 2015، وقّعت إيران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، الصين وروسيا) ومعها ألمانيا والإتحاد الأوروبي، إتفاقيةً تقضي بتقليص برنامج إيران النووي وتأمين مراقبةٍ دوريةٍ من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرّية للتأكّد من تطبيق إيران لبنود هذه الإتفاقية، مقابل إلغاء العقوبات المفروضة عليها من مجلس الأمن والإتحاد الأوروبي بسبب تبنّيها برنامجاً نووياً قد يؤدّي في المستقبل غير البعيد الى إنتاج أسلحة نوويّة. هذه الإتفاقيةُ دخلت حيّزَ التنفيذ في مطلع العام 2016.
 

الحزبُ الديموقراطي الذي ينتمي اليه الرئيس باراك أوباما كان مؤيِّداً للإتفاقية بينما الحزبُ الجمهوري عارضها بشدة لدرجة أنه، كونه كان يملك الأكثرية في كلٍّ مِن مجلس النواب ومجلس الشيوخ في الكونغرس، دعا رئيسَ وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو الرافض بشدة للإتفاقية منذ بداية المفاوضات عام 2013، ومن دون التنسيق مع الرئيس أوباما، لزيارة الولايات المتحدة وإلقاء كلمة في الكونغرس يشرح فيها سلبيات ومخاطر الإتفاقية من وجهة النظر الإسرائيلية.

معارضةُ الجمهوريين وإسرائيل ودولٌ خليجية بقيادة السعودية لم تتمكّن من الوقوف في طريق الإتفاقية التي صادق عليها مجلسُ الأمن لاحقاً بإجماع أعضائه بالقرار 2231، وبذلك أصبحت الإتفاقية جزءاً من القانون الدولي.

تزامن توقيع هذه الإتفاقية في منتصف العام 2015 مع بداية الحملة الإنتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة، وكان أحد المرشحين الجمهوريين آنذاك دونالد ترامب من أشدّ المعارضين لسياسة أوباما عموماً وللإتفاقية النووية خصوصاً، واصفاً إيّاها بالكارثية وبأنها أسوأ إتفاقية وقّعتها الولايات المتحدة، كما أنّه ركّز في كلّ مراحل حملته الإنتخابية على وعدٍ بالإنسحاب منها في حال أصبح رئيساً.

في سبيل التخفيف من حدّة معارضة الجمهوريين، كان أوباما توصّل الى تفاهم مع الكونغرس على أن تُحيل الإدارةُ كل ثلاثة أشهر الى الكونغرس تصديقاً يُثبت استمرار إيران في تنفيذ الإلتزامات المفروضة عليها في الإتفاقية، وفي حال عدم التنفيذ يُعاد فرضُ العقوبات تلقائياً.

بعد تسلّمه الرئاسة، أصدر ترامب التصديقَ الأوّل لعهده في منتصف نيسان بعد كثير من التردّد، وقد زاد تردّده عند حلول موعد التصديق الثاني في منتصف شهر تموز المنصرم ولكنّه، بعد إصرارٍ قويّ من وزيرَي الخارجية والدفاع ومن مستشار الأمن القومي ومن القائد العام للقوات المسلّحة، وافق على التصديق بشرط أن يقدّموا له فيما بعد دراسةً يتبيّن من خلالها أنّ إيران أخلّت بموجباتها وخالفت الإتفاقية لكي تكون عنده ذريعةٌ لعدم التصديق على الإلتزام الإيراني عند حلول الموعد المقبل للتصديق في منتصف تشرين الأول.

نتيجةً لذلك، لم يتأخّر وزير الخارجية ركس تيلرسون عن الإعلان، في أحد مؤتمراته الصحافية، أنّ إيران خالفت روح الإتفاقية إذ لم يكن لديه أيُّ دليل على مخالفتها لبنودها، وقد ردّدت المبعوثة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة السيدة نيكي هايلي ذلك في أكثر من مناسبة، كما أنّها توجّهت منذ أيام قليلة الى مركز الوكالة الدولية للطاقة الذرّية في فيينا سعياً لاكتشاف أيِّ دليل على عدم تنفيذ الإتفاقية من قبل إيران.

إنّ معارضة ترامب الشديدة للإتفاقية ليست ناجمة فقط من عدائه لإيران وعدم رغبته في رفع العقوبات عنها، بل إنّها تعود أيضاً، وربما بصورة خاصة، الى كرهه لأوباما وإلى سعيه الدؤوب إلى محوِ إرثه وإلغاءِ إنجازاته، وهو الذي قاد حملة التشكيك في مكان ولادة أوباما لسنين طويلة وصولاً بالتالي إلى التشكيك في شرعيّة رئاسته.

يضاف الى ذلك أنّ ترامب يهمّه إقناع مؤيّديه بأنه ينفّذ وعودَ حملته الإنتخابية بالكامل، ومن هذا المنطلق، قرّر سحبَ الولايات المتحدة من الإتفاقية التجارية لدول المحيط الهادئ وكذلك من اتفاقية باريس لمحاربة التغيّر المناخي وكلاهما من إنجازات أوباما، ولمّح أخيراً الى إمكانية الإنسحاب من اتفاقيةِ النافتا الموقّعة عام 1994 أيام الرئيس بيل كلينتون بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، علماً أنّ إعادة التفاوض عليها بدأت منذ أيام بطلب منه.

كما أنه ألغى العديد من القرارات الرئاسية التي كان اتّخذها أوباما في شؤون الهجرة وترحيل المقيمين بصورة لا شرعيّة وغير ذلك من الأمور، إلّا أنه لم يتمكّن حتى الآن من إلغاء قانون الرعاية الصحّية الذي يحمل اسمَ أوباما بسبب عدم الحصول على الأصوات الكافية لذلك في الكونغرس، وقد أصبح هذا الموضوع يشكّل هاجساً له إذ قلّما يمضي يومٌ من دون أن يُصدر تغريدةً أو يلقي كلمةً يلوم فيها الكونغرس على عدم تمكينه من تحقيق هذا الوعد.

ومن هذا المنطلق، فإننا نرى ترامب يصبّ جهداً كبيراً لإيجاد مخرج يمكنه من سحب الولايات المتحدة من الإتفاقية النووية مع إيران. وفي حال تمكّن من تحقيق ذلك، فإنه يكون قد وفى بأحد وعود حملته الإنتخابية وكسب رضى قاعدته الإنتخابية وقام بعمل يرضي إسرائيل، إلّا أنّ هذه المكاسب السياسية الشخصية المحدودة تقابلها سلبيات جمّة على الصعيد الوطني أهمها:

• ستتحرّر إيران من القيود المفروضة على برنامجها النووي وستعاود تخصيبَ الأورانيوم وتشغيل مصانعها النووية من دون تأخير، ما يمكنها من إنتاج سلاح نووي في مستقبل غير بعيد، وربما بالتعاون مع كوريا الشمالية التي تكنّ للولايات المتحدة عداءً واضحاً وهي لم تتردّد في توجيه تهديداتٍ مباشرة لها.

• الإتفاقية المذكورة ليست اتفاقيةً ثنائية أميركية - إيرانية، بل إنها تضمّ أيضاً خمس دول أخرى إضافة الى الإتحاد الأوروبي، وهي مصدّقة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ما سيضع الولاياتِ المتحدة إذا ما انسحبت من هذه الإتفاقية في عزلة ليس فقط من قبل الدول المعادية لها بل أيضاً من قبل دول حليفة وصديقة.

• إنّ مصداقية الولايات المتحدة ستتعرّض لاهتزازٍ كبير ممّا سيجعل العديد من الدول تتردّد قبل توقيع اتفاقيات معها خشية إلغاء الاتفاقية عند حصول تغيير في الإدارة، خصوصاً بعدما أثبت ترامب إمكانية حصول ذلك بانسحابه غير المبرَّر من الاتفاقية التجارية لدول المحيط الهادئ ومن اتفاقية باريس المناخية.

يبدو ممّا تقدّم أنّه ليس من مصلحة الولايات المتحدة الإنسحاب الأحادي من الإتفاقية النووية مع إيران إلّا إذا أخلّت هذه الأخيرة بصورة فاضحة بالتزاماتها، ولكنّ شخصية ترامب المعروفة بسرعة الإنفعال وشدّة الغرور، وتقديمه مصلحته الشخصية على أيّ مصلحة أخرى بما فيها المصلحة الوطنية، وإصراره على محوِ أيّ أثر لإرث سلفه، كلها أمور مثيرة لبعض القلق في هذا المجال، خصوصاً أنّ كلّ تصريحاته تجاه إيران غير ودّية، كما أنّ وزير خارجيّته ركس تيلرسون، منذ تسلّمه مهماته في مطلع هذه السنة، لم يقم بأيّ اتّصال مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بينما الوزير السابق جون كيري اجتمع 18 مرة بالوزير الإيراني وذلك علاوة على الإتصالات الهاتفية بينهما.