يشهد مجتمعنا العربي والإسلامي حالة غير مسبوقة من التفكك الأسري المقيت . حيث كانت الأسرة هي الملجأ الأخير للفرد ليأوي إليه من همومه الحياتية يستطيل بها على حوائجه ويستقوي بها على خصومه وأعداءه . إلا أن ما يجري بات في منتهى الخطورة, حيث أن نسبة كبيرة من الجرائم التي تقع بكثرة باتت تقع بين أفراد الأسرة الواحدة !!
 
فلطالما أنشد الشعراء قصائدهم في مديح القرابة والأخوَّة والعمومة والخُؤولة ومختلف العلاقات الرَّحميَّة على اختلاف درجات قربها, حتى أن عادة الثأر نشأت نتيجة شعور الفرد بأن المقتول أو المظلوم من عشيرته وليس فقط من أسرته هو ثأره الذي لا بد أن يأخذه ولو أودى به إلى الهلاك, رغم قبح هذه العادة .
 
يردُّ بعض علماء الإجتماع الحاليين السبب الأقوى للتفكك الأسري إلى أمورٍ نشأت حديثاً كالصناعات الحديثة التي حوَّلت الإنسان إلى آلى لا شعور لها, ويحمِّلون الأنترنت ومتفرعاته جزءا كبيرا من ذلك التفكك, إلا أن ذلك ليس صحيحاً, فإن التفكك الأسري قد بدأ قبل ظهور هذه الأمور بعقود طويلة, حيث نجد أن كبار العلماء والمتخصصين قد تحدثوا من أوائل القرن الماضي عن هذا المرض الخطير الذي بات متفشي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية, وأفردوا لهذا الموضوع أبحاثاً ومحاضرات وناقشوا الأسباب وحاولوا أن يضعوا حلولاً لها, ولكن دون جدوى . فقد انتشر المرض بشكل كبير حتى وصل حَدُّه إلى أن يصبح  قتل الأخ لأخيه والولد لوالده أمراً شبه مألوف, بعدما كان الإخوة والأقارب يتوارثون الثأر لبعضهم من ظالميهم والمعتدين على أي منهم !!
وهنا سأتحدث من وجهة نظري عن السبب الأقوى لانحلال العقد الأُسري وشياع الشعور بالنفور حتى بين أبناء البطن الواحدة وتحوُّل الكثير منهم إلى أعداء وبشكل غير مسبوق على الإطلاق .
 
فأقول : إن الإنسان بطبعه مخلوق ضعيف ذي حوائج لا تنتهي, سواء كانت حوائج جلب منفعة أو دفع ضرر . والفرد لوحده لا يقدر على تحصيل كل حوائجه نظراً لعجزه الذاتي الفطري عن ذلك . وقد جُبِل الإنسان على التوجه لغيره من نظراءه البشر لتحصيل حوائجه الأولية والكمالية, حتى اتفق علماء الفلسفة والنفس أن الإنسان بطبعه "مخلوق إجتماعي" لا يمكن أن يعيش حياته لوحده للسبب المذكور آنفاً . وهذا الغير هم نظراءه من بني البشر . وبما أن علاقة الدم هي العلاقة الأقوى جاذبية لأنها وُجِدَت بالتكوين, فإنها تجعل الفرد يتوجه تلقائياً إلى من يجمعه به هذا الرباط المقدس لجلب النفع ودفع الضرر, بدءاً برابط الأُبوّة ثم الأخوَّة ثم العُمومة والخُؤُولة, وانتهاءاً بمجرد الإجتماع برابط الدم ولو من خلال جَدٍّ على بُعد قرون ماضية . 
 
إلا أن ما جرى في القرن الماضي من تَشَكُّل الأنظمة الحديثة ذات المؤسسات والقوانين الشاملة لمختلف جوانب الحياة, سواء على مستوى المأكل والملبس والمسكن والإستشفاء والحماية وغيرها من مؤسسات وقوانين تحاكي كل حوائج الفرد, جعلت المرء يشعر بعدم الحاجة لأحد من الناس على مستوى العلاقة الفردية, ومن هؤلاء الناس الذين شعر بالإستغناء عنهم همم الأقربون ولو كانوا أباً أو أخاً, ما دام هناك من يؤمن له كل ما يحتاجه من جلب نفعٍ أو دفع ضررٍ مقابل أموالٍ يدفعها كضرائب لمؤسسات تقوم بهذه الحوائج كلها ومن دون مِنَّةٍ من أحد يضع تَضع دَيناً ثقيلا في رقبته .
فعندما شعر الفرد أن هناك سلطات ذات مؤسسات  تؤمن له كل حوائجه -التي كانت تدفعه لا شعورياً إلى التعلُّق بالأقارب لتحصيلها- فتحميه وتأخذ بحقه من كل من يعتدي عليه وتُطبِّبه وتؤمنه عند وقوع الكوارث وغيرها من الحوائج الضرورية وخصوصاً بعد وجود الآلات التي أغنته عن الحاجة لغيره في الكثير من حاجاته الحياتية, فإن كل ذلك مجتمعاً قد ضَعَّف الشعور بالحاجة لدى الفرد إلى نظراءه في الإنسانية من الذين كانوا لا بد منهم في حياته لتحصيل هذه الفوائد التي لا بد منها . وقد تدرَّج مع الأيام هذا الشعور بالإستغناء عن الغير إلى أن وصل إلى مرحلة الشعور بالإستغناء حتى عن الأقارب, حتى وصل الأمر-بعدما بات الفرد يشعر أنه قائم بذاته- إلى مرحلةٍ بات التزاحم في المصالح حتى بين الأقارب يتم التعامل معه من الكل مع الكل كما يتعامل الخصم مع خصمه والعدو مع عدوه, وخصوصاً بعد أن باتت الحياة المادية والتكالب على المصالح الدنيوية والتنافس فيها حتى من غير حاجة إليها هي المستحكمة في نفوس الآدميين . فترى الولد يهجر والده وربما يقتله لمجرد تعارض مصلحته مع مصلحته, وكذلك ترى الأخ يفعل بأخيه, فيمكر به كما يمكر العدو بعدُوِّه, فضلاً عن النسب الأبعد من ذلك, وكأنهم مخلوقات من أجناس مختلفة لا يربط بينهما رابطٌ حتى الرابط الإنساني العام فضلاً عن الرابط المقدس وهو رابط الدم, قريباً كان رابط الدم هذا أم بعيداً. والسبب الأهم لهذا الأمر الفظيع الذي بات مستشرياً بين الناس هو الشعور بالإستغناء عن غيره حتى من أقرب الأقربين بعدما وجد البديل الذي أمَّنته له الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها وقوانينها التي –رغم ضرورة وجودها الذي لا بد منه لِنَظم حياة المجتمع- إلا أنها مؤسسات تعتمد قوانين تحاكي وتقوي شعور المصلحة الفردية فقط دون الشعور الجماعي الذي فُطِر عليه الإنسان على أساس الأقرب فالأقرب, والذي يحتاج إلى اعتماد قوانين مختلفة عن القوانين الحاكمة حالياً في أنظمة الأرض ومؤسساتها, وهي قوانين تحاكي القِيم الفطرية الشعورية الجميلة بل الجليلة التي زرعها الخالق الحكيم في الإنسان, فوُلِد عليها واستمرت معه حتى بلغ سن الإدراك, فأدرك بيئة مادية مصلحية تعتمد على النفع الفردي فقط, فماتت خِصاله الفطرية الحميدة وتحوَّل كغيره إلى وحش كاسر يلتهم كل ما يقدر عليه  . 
 
قال الخالق الحكيم في كتابه المبين : {كَلَّا, إنَّ الإنسان لَيَطغَى & أن رَّءاه استغنى} [سورة العلق/ 6-7] 
أي إن الإنسان عندما يرى  نفسه مستغنياً عن غيره, فإن الشعور بالعدوانية تجاه غيره يتحرك فيه ويدفعه للطغيان !!