في الأشهر الأخيرة، بقيَ «حزب الله» مستنفراً لإسقاط أيّ قانون انتخاب يمكن أن يشكّل خطراً استراتيجياً عليه. فالمجلسُ النيابي خطٌّ أحمر لأنه مصدر السلطات. ويقول المطلعون: لو اقتضى الأمر، كان «الحزب» مستعدّاً لتنفيذ ما يشبه 7 أيار لتعطيل ولادة القانون. لكنّ الأمور كانت أكثرَ سهولة، وانتهت «على ما يرام». وهذا الخيار هو المفضّل لدى «الحزب»، خصوصاً في الظروف الحاضرة.منذ انخراطه في الحرب السورية، يعتمد «حزب الله» تكتيكاً مزدوِجاً
 

- تمسّك مطلق بالسلاح وبهوامش الحركة العسكرية والأمنية في لبنان وسوريا وبينهما.

- ليونة مطلقة في التعاطي السياسي مع القوى الداخلية، حتى المصنّفة في صفّ الخصوم.

في هذا التكتيك، يحتفظ «الحزب» بكل مكامن القوة العسكرية والأمنية، وهي حيوية له، ويترك لنفسه الهوامش اللازمة لتأمين المظلّة الحامية لها، من خلال المؤسسات الرسمية.

ولذلك، وافق «الحزب» على صفقة عودة الرئيس سعد الحريري إلى لبنان ورئاسة الحكومة وتعويم دور «المستقبل» السنّي والوطني، مقابل أن يقوم الحريري بطيّ صفحة المطالبة بنزع سلاح «الحزب» وخروجه من سوريا. وليست لـ«الحزب» مشكلة مع الحريري، إذا خرج عن مسار «الحريرية السياسية».

وأما وصول الرئيس ميشال عون إلى بعبدا فهو شأن مختلف. فالرجل استطاع أن يفرض على الجميع خيارَ انتخابه. وعلى رغم أنه لم يكن المفضّل بالنسبة إلى «الحزب»، فهو استقوى بما يمتلكه من قوة تمثيلية مسيحية لا يرقى إليها الشك. ولاحقاً، تأقلم «الحزب» مع وجود عون في موقع الرئاسة، وقرّر الاستفادة منه في تشكيل المظلّة التي يحتاج إليها.

وهكذا، تبخَّرت تماماً المطالباتُ بنزع سلاح «حزب الله» أو تخلّيه عن قرار الحرب والسلم للدولة. وولّى زمنُ النقاش في الاستراتيجية الدفاعية، ولم يعد أحدٌ يطالبه بالخروج من سوريا.

مقابل ذلك، تخلّى «الحزب» للقوى السياسية كلها، عن هامشٍ واسعٍ من المناورة، لكي تفاوض مرتاحةً حول قانون الانتخاب. وظهر ذلك خصوصاً في «الصبر» الذي يقول القريبون إنّ «الحزب» تعاطى به مع مطالب «التيار الوطني الحر» في ملف قانون الانتخاب، والذي عبَّر عنه الرئيس نبيه بري بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن «الحزب».

من دون عناءٍ كبير، بات جميع أهل السلطة يعترفون اليوم صراحةً بوضعية «الحزب» المميَّزة. وتبدو الدولة كلها في موقع المبارِك أو الصامت عن التهديد الذي أطلقه أخيراً الأمين العام لـ«الحزب» السيد حسن نصرالله، والذي لوّح فيه بالاستعانة بمئات الألوف من المقاتلين العراقيين واليمنيين والإيرانيين والأفغان والباكستانيين... لمواجهة أيّ عدوان إسرائيلي على سوريا أو لبنان.

ولأنّ الترجيحات بحصول اعتداءٍ إسرائيلي محدودة، تتّخذ مواقف السيد نصرالله طابعَ الرسالة المتعدّدة الاتجاهات. والأبرز هو أنها توجِّه تهديداً واضحاً للإدارة الأميركية التي تستعد لفرض عقوبات جديدة على «الحزب» وحلفائه، واستتباعاً تضع لبنان الرسمي كله في خانة واحدة مع «الحزب».

يعتبر كثيرون أنّ الثمن الذي دفعه «حزب الله» للحصول على التغطية الداخلية الشاملة زهيد، ويقتصر على بعض التفاصيل الداخلية، فيما هو حظيَ بضمانات على المستوى الاستراتيجي. ويذهب البعض إلى القول: كل زوبعة قانون الانتخاب، والأرباح التي يعتقد البعض أنه تمكن من تحقيقها، قد لا ترى النور.

فلا ضمانات حقيقية في موعد إجراء الانتخابات في أيار 2018. وقد يرى «الحزب» مصلحةً في إرجاء الانتخابات مجدداً، لأيّ ذريعة كانت، سعياً إلى إنضاج الشروط المناسبة أو لجعل المجلس النيابي المقبل هو الكفيل بانتخاب رئيس الجمهورية في 2022، ما يضمن الإمساك بموقع الرئاسة 9 سنوات على الأقل.

في العنوان الكبير، تمّ التفاهم على قانونٍ للانتخاب. ولكن في التفاصيل، هناك قانونٌ على الورق مليء بالثغرات والفجوات التي تستدعي التصحيحَ والتعديل، ولا انتخابات مؤكدة.

وفي العنوان الكبير محاولة لإنتاج أجندة عمل للعهد، من خلال «شبه حوار» أصدر «وثيقة بعبدا». ولكن في التفاصيل، هناك مصاعب تضع الحوار والبنود السياسية في الوثيقة، وأيّ بنود أخرى، في قفص مقفل.

ويبدو «حزب الله» هو القادر على الإفراج عن الانتخابات والحوار وإحياء الوثيقة، لأنه الأقوى على الأرض. بل هو قادر على الذهاب بالقانون والحوار نحو ما يمكن تسميته المؤتمر التأسيسي الذي يطالب به، والذي قد تنضج الظروف الملائمة له.

فهناك تغطية دولية لحوارٍ وطني يصحِّح عورات «الطائف» أو يطوِّر هذا الاتفاق أو ينفّذ البنود المجمّدة فيه أو يبتكر حلولاً جديدة للنظام البالي، كاللامركزية الموسّعة ومجلس الشيوخ وإلغاء الطائفية السياسية موجودة. وهناك ضوء أخضر لقانون انتخاب يبدّل في الطبقة السياسية الممسكة بالبلد منذ عشرات السنين، ما ينقله إلى وضع أفضل.

هذا الحوار نفسه هو الذي سيحاول «الحزب» ركوب موجته لتحويله مؤتمراً تأسيسياً. وكل الملامح تشير إلى أنّ «الحزب» يدفع الجميع إلى الانزلاق، بإدراكٍ منهم أو بغير إدراك، نحو المؤتمر التأسيسي الذي قد يصبح واقعاً ملموساً، بعد 11 شهراً، أو قبل ذلك أو بعده.