للمرة الأولى منذ فترة بعيدة يضرب الارهاب قلب إيران، وهي ربما المرة الاولى منذ قيام الثورة الاسلامية ينجح الارهاب في استهداف موقعين يحملان رمزية كبيرة تصل الى حد القداسة. الاول يطاول صانع الجمهورية الاسلامية ورمزها الديني الرفيع، والثاني يصيب أحد الركائز الاساسية للدولة الايرانية.
 

لا شك في انّ الجهة التي تقف وراء الاعتداءين هي جهة كبيرة. صحيح انّ تنظيم «داعش» أعلن تبنّيهما، لكنّ السؤال هو اي جزء من اجزاء «داعش» نفّذهما؟ ولأيّ مصلحة سياسية في هذه المرحلة بالذات؟ فاختيار المكان، كما اختيار الزمان، يحملان أسئلة كثيرة وهو ما سيطرحه المسؤولون الايرانيون في الايام والاسابيع المقبلة.

كان من المفترض بتنظيم «داعش» ان يكون منشغلاً بالانهيارات العسكرية لمقاتليه على الارض. بالتأكيد هو قادر على اختراق الساحات وتنفيذ العمليات الارهابية كما هو حاصل في اوروبا مثلاً. لكن مع الأخذ في الاعتبار ملاحظتين أساسيتين:

الاولى، انّ العمليات الارهابية التي تهزّ ساحات اوروبا أظهرت انّ التخطيط والتحضير والاشراف يحصل من ليبيا حيث الفرع الجديد لـ«داعش» والذي قد لا تربطه بالقيادة الأُم في الرقة سوى التسمية او العنوان وفي أفضل الحالات تفاصيل عريضة.

والملاحظة الثانية، انّ عمليتي ايران احتاجتا الى درس مستفيض وعناية دقيقة وتخطيط بارد وامكانات خاصة، ما يدفع الى السؤال: أيّ فرع لـ«داعش» نفّذ العمليتين؟ ولمصلحة من؟

فعدا الدافع العقائدي الداعشي هنالك الاهداف السياسية.

بعد زيارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب للمنطقة بدأت عواصف جديدة، وقد لا تكون ضربة ايران بعيدة من ذلك. فخلال الاسابيع الماضية، وفي خطوة نادرة في هذا المجال، تحدثت وسائل اعلام اميركية أنّ الادارة الاميركية كلّفت شخصاً يدعى مايكل دي اندريا الإشراف على العمليات الخاصة في ايران في المخابرات المركزية الاميركية.

في العادة لا يُسرِّب المسؤولون الاميركيون معلومات استخباراتية حساسة كهذه، وحصل ذلك بعد زيارة ترامب للسعودية حيث تمّ التركيز على الاهداف التوسعية لايران في المنطقة والعمل على محاربتها.

وقبَيل زيارة ترامب للرياض بيومين شَنّت الطائرات الحربية الاميركية هجوماً مباشراً على القوات السورية المدعومة من قوات حليفة لإيران لمنعها من التقدم في اتجاه معبر التنف في محاولة لتأمين ربط بغداد بدمشق براً، وأعلن الجيش الاميركي عن غارته. فيما تزامنت الضربة الجوية الثانية أمس مع استهداف إيران.

وبعدها، تحدثت الصحف الاميركية عن تعيين دي اندريا على رأس العمليات الخاصة في ايران، وهذا الرجل الستيني اكتسب شهرة قوية في بلاده بعد ان نجح في تعقُّب اسامة بن لادن واكتشاف مخبئه، وكذلك أسندت اليه عملية الاشراف على اغتيال عماد مغنية في دمشق، إضافة الى انه أشرف على عمليات طائرات الدرونز والتي اغتالت مسؤولين في تنظيم «القاعدة» في اليمن وباكستان، وهو ما جعل البعض يطلق عليه لقب «أمير الظلام» وقيل انه تحوّل الى الاسلام بعدما تزوج امرأة مسلمة، وانّ مهمته الجديدة هي العمل على احتواء التمدد الخارجي لإيران بالتنسيق مع مسؤولي الأمن القومي الذين عيّنهم ترامب والذين يصنّفون بأنهم من الصقور.

وقد يكون من المبكر ربط الامور بعضها ببعض، لكن في عالم الاستخبارات هناك تقاطع وتشابك بين كل الخيوط. فمثلاً أظهرت فضيحة كشف ترامب
لوزير الخارجية الروسية انّ لإسرائيل مصدر بشري قوي داخل الحلقة الضيقة جداً لجهاز «داعش» المكلّف التخطيط لعمليات إرهابية وهذا ما يفتح باب الاجتهاد واسعاً، لكنّ الأكيد انّ عمليتي ايران واللتين تمّ فيهما اختيار الاهداف بعناية، حملتا رسائل قوية في مرحلة تسعى فيها ايران الى تأمين الطريق البريّة من طهران الى الناقورة.

وإنّ هذين التفجيرين يدفعان الى التكهن بأنّ جبهات جديدة قد فتحت في وقت يتصاعد اللهيب في سوريا والذي سيؤدي الى ترتيب ساحتها وتقاسم النفوذ فيها، خصوصاً في مرحلة ما بعد «داعش».

كذلك يتزامن ذلك مع سعي ترامب الحثيث الى تحقيق إنجاز على مستوى الملف الفلسطيني ـ الاسرائيلي.

وفيما بَدا انّ احد المطالب المطروحة على قطر هو قطع العلاقة مع حركة «حماس»، تردد انّ ايران أبدت استعدادها لتقديم دعم مالي لـ«حماس».

وفي إشارة الى الضغط الذي تمارسه ادارة ترامب في اتجاه الملف الاسرائيلي - الفلسطيني كان لافتاً قول رئيس الحكومة الاسرائيلية انه «لن يتم اقتلاع ايّ مستوطن في حال السلام». وقد حمل كلام نتنياهو في طيّاته شيئاً من التراجع، وهو الذي يترأس ائتلافاً حكومياً يرفض «حل الدولتين» تحت أيّ ظرف كان ومتمسّك بتوسيع رقعة الاستيطان.

وقيل انّ ترامب أبلغ الى المسؤولين الاسرائيليين انّ الظرف يعمل لمصلحة اسرائيل لإنجاز تسوية، وهو ما قد لا يتحقق مرة أخرى.

وفي الكلام الاميركي أنّ الدول العربية التي أبدت ليونة في موضوع التطبيع مع اسرائيل بعدما أضحى العداء لإيران أول اولوياتها، قد تحجم عن ذلك من دون حصول تسوية مع الفلسطينيين ترفع عنها احراج التطبيع، وانّ هذه الفرصة قد تهدرها الحكومة الاسرائيلية.

اضف الى ذلك انّ الدول الاوروبية، وبسبب علاقتها السيئة مع ترامب، قد تندفع وتعلن اعترافها بالدولة الفلسطينية، فيما الاعتراف مقتصر الآن على السويد فقط، ما يعني إضعاف موقف اسرائيل دولياً.

ويبدو ترامب مندفعاً، لا بل مستميتاً، لتحقيق إنجاز سياسي مدوٍ للملف الفلسطيني - الاسرائيلي لعلّه ينجح في استثماره داخلياً وسط الحصار المتزايد عليه.

ففيما سيستمع الكونغرس الاميركي اليوم للمسؤول السابق عن الـFBI جيمس كومي، رجّحت صحيفة «واشنطن بوست» أن يعترف كومي بضغوط مارسها ترامب عليه لإغلاق التحقيق مع مايكل فلين حول روسيا.

وفي وزارة الخارجية ثمة تمرّد ديبلوماسي ناعم على ترامب وهو ما لم يحصل سابقاً في ايّ مرحلة من المراحل. فالقائم بأعمال السفارة الاميركية في الصين ديفيد رانك قدّم استقالته معللاً إيّاها بالقول: «لا استطيع الدفاع عن قرار ترامب بالانسحاب من اتفاقية المناخ».

والسفير الاميركي في بريطانيا لويس لوكنز غرّد على «تويتر» معلناً دعمه عمدة لندن صادق خان في وقت كان ترامب يهاجمه بقسوة.

وقبلهما كان نحو ألف موظف في وزارة الخارجية قد وجّهوا رسالة احتجاج بسبب قرار ترامب بالحظر المؤقت لدخول مواطني 7 دول إسلامية الى الولايات المتحدة الاميركية.

في اختصار إنّ كادر وزارة الخارجية يتعاطى مع الرئيس الاميركي من زاوية عدم الأهلية لقيادة البلاد.

لكنّ الخطوة اللافتة جاءت من لبنان مع زيارة قائد المنطقة الوسطى في الجيش الاميركي الجنرال جوزف فوتيل الذي أكد خلال لقائه برئيس الجمهورية دعم بلاده وتقديرها للجيش اللبناني، مجدداً القرار بأنّ مخازن الجيش الاميركي مفتوحة لأيّ طلبات طارئة للذخائر في حالات الطوارىء.

وفيما كان فوتيل يستعين بورقة كتب عليها النقاط الاساسية، لفت الى انه لم يتطرّق الى «حزب الله» او «المجموعات المسلحة» خارج إطار الشرعية. وبعد أن بات ليلته في السفارة الاميركية، زار في اليوم التالي جبهة عرسال، والتي تستعد لإنهاء الوجود الارهابي في جرودها، فيما الواقع الميداني متداخل بين الجيش اللبناني و»حزب الله».