موقف واحد كفيل بإزاحة الغبار عن مسائل قد يعتبرها المرء انتهت، أو ذهبت مع الزمن. لكنها في السياسة، تعود لتبرز وتظهر وتستثمر حين تقتضي الحاجة. تفجير مبنى القوات الأميركية في بيروت، يعود إلى الذاكرة الأميركية، ومن المرجّح أن يتصاعد الحديث فيه في المرحلة المقبلة. مسودة خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في شأن مكافحة الإرهاب واعتبار حزب الله جزءاً من هذا الإرهاب الذي تجب مكافحته، سترتكز في الأيام المقبلة على الإنطلاق في تحديد تصرّفات الحزب "الإرهابية"، بحسب الأميركيين، من أول عملية عسكرية نفّذها الحزب ضدهم في العام 1983، والتي قتلت عدداً كبيراً من جنود المارينز دفعة واحدة. لتتعزز النظرة أكثر إلى ممارسات الحزب في سوريا، حيث شارك في العمليات العسكرية وعمليات تهجير السوريين من مدنهم وقراهم.

في هذا المجال، قد يكون التعاطي الأميركي مبنياً على فكرة الثأر، أو هناك من يستخدم عبارة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بأن "حزب الله لا يترك أسراه في السجون ولا ينسى شهداءه"، فيقول الأميركيون إنهم لم ولن ينسوا المارينز، وإن الردّ على هذه العملية سيكون حاضراً وبقوة ولو بعد نحو أربعين عاماً.

للحروب ثابتتان، وسيلة لتحقيق الهدف السياسي، وفرض وقائع جديدة على الأرض. أما الوسيلة فتنتهز من ظروف موضعية وسياسية، تشي بأن الظرف مناسب لشنّ الضربة العسكرية. وفي معرض تنامي الحديث عن تصاعد إحتمالات اندلاع حرب إسرائيلية ضد حزب الله، لا بد من العودة إلى محاولة قراءة ظروف الحروب التي شنّتها إسرائيل ضد لبنان وحزب الله، وتحديداً منذ اجتياح العام 1982، إلى حرب تموز 2006.

قبل الاجتياح الإسرائيلي لأجزاء واسعة من لبنان، عام 1982، فرضت منظمة التحرير الفلسطينية واقعاً سياسياً وعسكرياً أنتج معادلة ترجّح كفّتها في لبنان. ولّد ذلك شعوراً بالنقمة لدى جزء واسع من اللبنانيين، وحتى ضاق المؤيدون للمقاومة الفلسطينية بتصرّفاتها ذرعاً، ومن يذكر العملية التي حدّدت في حينها، لم تكن التقديرات الإسرائيلية المعلنة تشير إلى الوصول إلى بيروت، الحديث كان عن اجتياح إلى جنوب الليطاني، وفي أقصى الحدود الوصول إلى صيدا عاصمة الجنوب. دخول بيروت كان مفاجأة كبرى ومدوية، وما أرادته إسرائيل من هذا الاجتياح، هو تغيير المعادلة السياسية برمّتها وإعادة فرض واقع جديد، ولا شك أنها استغلّت تعاطف جزء من اللبنانيين معها. بمعزل عن تغيّر الظروف والوقائع حالياً، لكن ثمة تشابهاً بين تلك المرحلة وما يحصل الآن بالنسبة إلى حزب الله، إذ هناك شعور بالنقمة من تصرفاته لدى فئة واسعة من اللبنانيين، قد تستثمرها إسرائيل لإعادة فرض وقائع معينة.

في العام 1996، كانت قوة حزب الله بدأت بالتعاظم. كانت التقديرات الإسرائيلية في حينها، تفيد بأن لدى رفيق الحريري مشروعاً إقتصادياً لا يتلاءم مع سلاح حزب الله. بالتالي، اعتبرت إسرائيل أن الوقت سانح لتنفيذ ضربة، ولا يكون اللبنانيون جميعهم ملتفين حول الحزب. كما كان في ذلك الوقت مفاوضات لبنانية إسرائيلية غير مباشرة يقودها جاك شيراك للعودة إلى إتفاق الهدنة، فشُنّت الضربة، ليأتي موقف الحريري مغايراً للظنون والآمال الإسرائيلية. وبعد وقف العدوان، طرح الإسرائيلي مسألة الإنسحاب من لبنان مقابل أن يضمن الحريري وشيراك إنسحاب السوريين من لبنان.

أما حرب تموز في العام 2006، فقد استغلّت إسرائيل خطف حزب الله عنصرين من جنودها، وشنّت عملية عسكرية واسعة، أوصلت إلى الموافقة على القرار 1701، ودخول الجيش الإسرائيلي الجنوب، وبالتالي حماية الحدود الإسرائيلية بقرار دولي. تحرّك حزب الله جاء بعد فشل المفاوضات الإيرانية الغربية في شأن المشروع النووي. بالتالي، أرادت إيران الرد عبر الجنوب.

الآن تعتبر إسرائيل أن حزب الله محاصر دولياً، وهناك مساع لتقويض النفوذ الإيراني في المنطقة، والعامل الأهم أن حزب الله يفتقد إلى عنصر الإجماع حوله والدعم اللبناني والعربي. فمنذ دخوله الحرب السورية، ومختلف الأطراف والدول العربية والرأي العام العربي يريد توجيه الضربة إلى حزب الله، لتكون عامل تغيير في الموازين.

في المعطيات السياسية، التخوف موجود من إمكانية دخول إسرائيل على الخطّ، وحزب الله اتخذ العديد من الاجراءات في الجنوب تأهباً لحصول أي ضربة ممكنة. أما في المعطيات العسكرية فبالنسبة إلى حزب الله، لن تلجأ إسرائيل إلى شنّ هذه الضربة حالياً لأنها غير قادرة على حسم النتيجة لمصلحتها، وهي تعلم أن الحزب غالباً ما كان يخبئ مفاجآت في المعارك التي خاضها ضدها. صحيح أن إسرائيل تستعد لهذا، ولكنها تحتاج إلى حدث غير عادي، أو تغيّر كبير في السياسة الدولية. غالباً ما يصعب التنبؤ بحصول الحروب، لكن قراءة إشاراتها ممكنة، أما تحديدها فيبقى رهن التطورات، وإذا ما استطاعت إسرائيل ضمان موقف دولي مؤيد لما تريد القيام به. بالتالي، تهدف الضربة إلى أذية الحزب عسكرياً، وفرض شروط سياسية مغايرة عليه وعلى إيران.

ولكن، ما سيكون هدف الضربية؟ حتى الآن، هذه الضربة ستكون مؤجلة إلى ما بعد اتضاح المشهد السوري، وتبيان الخيط الأبيض من الأسود. هناك من يعتبر أن الضربات الإسرائيلية قد تستمر وتتعاظم في سوريا عبر استهداف مواقع لحزب الله، وثمة سؤال أساسي يطرح، هو عن الجهة التي قد تتسلّم الوضع كبديل من حزب الله، أو بالأحرى الإستثمار في نتائج الضربة الموجهة إلى الحزب. مراكمة الفوضى تقلق إسرائيل، خصوصاً أن الحرب التي تريد شنّها، ليست حرب الضرورة، وإمكانية تأجيلها قائمة، لربّما تتحقق النتائج السياسية بدون اللجوء إليها، والذي قد تفرضه واشنطن على المسرح السوري الذي سيبدأ بإقامة المناطق الآمنة.