لم تكن الضربة الأميركية لقاعدة الشعيرات السورية مفاجئة للعديد من الذين كانوا على تماس مع الإدارة الأميركية. فعقبَ الاجتماع الأمني الذي رئسَه دونالد ترامب لمناقشة الخيارات للرد على «غارة السارين»، نُقلَ عن ديبلوماسي أميركي قوله إنّ بلاده تستطيع القيام بعملياتها العسكرية في الأطلسي والباسيفيك في آن. فما الذي تغيَّر ليكشف ترامب عن وجهِه الجديد، وما هي المبرّرات؟
 

قبل ساعات قليلة على الضربة الأميركية الصاروخية التي استهدفت فجر الجمعة قاعدةَ الشعيرات السورية الجوية قرب حمص، كان الرئيس الأميركي قد عبَّر عن غضبه أكثر من مرّة خلال 48 ساعة على الغارات السورية على خان شيخون، وعن صدمته من توجّهات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حيال الغارة السورية ومواقفه دفاعاً عن النظام.

كان ذلك قد جرى على خلفية المشاهد التي نَقلتها وسائل الإعلام من المنطقة السكنية المستهدفة، ولا سيّما صوَر الأطفال والمدنيين السوريين، والتي حملت إحداها مندوبة واشنطن لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي في جلسة مجلس الأمن عندما توجّهت الى الرئيس الروسي لتسأله صراحةً عن شكل الردّ الذي يمكن ان يقوم به تجاه نظام «سبق له ان التزَم بتطويعه وتطبيعه في الفترة الأخيرة». وانتهت الى القول «إنّ بلادها قد تضطرّ إلى الرد بلا تفويض من مجلس الأمن على استخدام الأسلحة الكيماوية مجدّداً في سياق الحرب السورية».

وحيال هذا التطوّر بقيَ أن يقفَ وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون الموقف نفسَه الى جانب الخلية العسكرية والديبلوماسية المكلّفة إدارة الأزمات الطارئة، والتي تضمّ، الى ترامب، وزيرَ الدفاع الجنرال جوزف ماتيس ونيكي هايلي، فسبقهم في تحذيراته من تردّدات العملية وخطورتها، عندما قال: «إنّ من يَدعم الأسد ويدافع عنه، بمن فيهم روسيا وإيران، لا يجب ان تكون لديه تخيّلات حول نواياه».

وأضاف «إنّ مَن يستخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه لا يَحترم الإنسانَ ويجب أن يحاسَب». فسجّلَ بذلك وفي أقلّ من أيام قليلة تراجعاً قياسياً عن مواقفه السابقة عندما أعلن «أنّ الشعب السوري هو من يُقرّر مصيرَ الرئيس السوري بشّار الأسد»، مؤكّداً أفضلية مواجهة «داعش» والإرهابيين في هذه المرحلة بالذات.

على هذه الخلفيات تحدّثت التقارير التي ورَدت في الساعات الماضية من واشنطن، أنّ الإدارة الأميركية رَصدت بقوّة المتغيرات المفاجئة التي عبّر عنها ترامب، فتحوّل في ساعات قليلة إلى «ترامب جديد» يُندّد بالرئيس الروسي الذي كان يعدّه «صديقاً» يمكن أن يتفاهم معه حول العديد من الملفات والأزمات الدولية وبالنظام الذي يرعاه، مهدّداً ومتوعّداً بالردّ سريعاً وفق الخيارات المفتوحة امام إدارته على اكثر من مستوى عسكري وديبلوماسي.

تقول المعلومات إنّ الإدارة الأميركية وجَدت نفسها في المشهد الذي كان قد عاشَه باراك اوباما في 20 تمّوز 2013 عندما تداوَل الجميع في المعلومات التي تحدّثت عن استخدام الأسد قبل يوم واحد غازات محظورة في القصف على الغوطة الغربية في حينه، فكان القرار بعدم التشبّه بتلك المرحلة ليكون صادقاً مع سلسلة الإنتقادات التي وجّهها في حملته الانتخابية الى إدراة سلفِه وتجاهله القوّة الأميركية لمعالجة الملف السوري وترك الشعب السوري ضحية بطشِ النظام والإرهابيين وخروجهما على القواعد الإنسانية معاً.

وفي هذه الأجواء، عكسَت الإدارة الأميركية الصورةَ تجاه العالم لتقديم نموذج مخالِف للإدارة السابقة، وتقرّر القيام بعمل عسكري أحادي من طرف واحد.

فاختارت على ما يبدو خياراً واحداً من بين الخيارات المتعدّدة أمامها، فوَقعت الضربة على قاعدة الشعيرات الجوّية، ليس لسبب سوى أنّها «القاعدة العسكرية التي انطلقَت منها طائرات النظام في غاراتها على المنطقة المستهدفة في إدلب»، وكان ما كان مِن ظهور عوارض استخدام غاز السارين فيها على أجسام الضحايا الذين زادوا على المئة وآخرين أحصيَ منهم أكثر من 170 مصاباً.

وما يؤكّد ذلك - يقول ديبلوماسيون أميركيون - أنّهم تيقَّنوا من استخدام هذه الأسلحة المحظورة بالاستناد الى تقارير طبّية موثوقة. وكشفوا أنّ بعض المنظمات السورية المعارضة نَقلت جثثاً لضحايا الغارة إلى منطقة أنطاليا في تركيا، حيث أخضِعت للتشريح الطبّي على يد أطبّاء شرعيين محلّيين وأمميّين، وتمّ التثبتُ من العوارض السامة التي أصابتهم بمعزل عن النظريتين؛ الروسية التي تقول بوجود هذه الأسلحة في المنطقة المستهدفة، أو الرواية الأخرى الأكثر واقعية والتي قالت باستخدام الطائرات السورية صواريخَ مجهّزة بهذه المواد في غاراتها على منطقة سكنية لا وجود فيها لمواقع المسلّحين وثكناتهم.

وعليه، تتوقّع السيناريوهات المتداولة في أروقة وزارة الخارجية الأميركية صدورَ المزيد من الإجراءات الأميركية المتشدّدة تجاه النظام، ومنها فرضُ حظر جوّي على مناطق الشمال ما لم تنجح الإدارة الروسية في نيلِ التعهّدات التي طلبتها الإدارة الأميركية منها لردع النظام السوري بناءً اتفاهمات سابقة.

وهو أمرٌ سيَنقله إلى موسكو وزير الخارجية الأميركية الذي سيكون ضيفاً على نظيره الروسي في الساعات المقبلة للبحث في مستجدّات الوضع السوري وتردّدات العملية العسكرية الأميركية على وقعِ ردّات الفعل المختلفة التي ترَكتها في العالمين الغربي والعربي وحلفاء الطرفين، وسط تمايزٍ كبير في الشكل والمضمون يُبرّر الضربة العسكرية بقوّة أو يدينها بشكل ملطّف.

وهو أمر لا يمكن تجاهله في قراءة الموقف الصيني الذي دانَ استخدام الأسلحة المحظورة أيّاً كانت الجهة المستخدمة، والموقف الألماني الذي برّر الضربة الأميركية رغم الخلاف بين ميركل وترامب على قضايا متعدّدة.

وبناءً على ما تقدّم يبقى على المراقبين انتظار ما ستكون الخطوة الأميركية التالية، فكلّ السيناريوهات متوقّعة ولم تعُد تحمل أيّ منها أيّ مفاجأة، فقد كشفَ ترامب عن وجهٍ جديد تجاه بوتين والأسد على قاعدة أنّ الأميركيين قادرون على شنّ العمليات العسكرية في الأطلسي والباسيفيك أو أيّ منطقة في العالم في آن، فكيف بعمليات قد تستهدف «داعش» والنظام السوري معاً.