البحث التَّاريخي كتشخيص للحاضر
 


يُسعدني أن أكون أمامكم، اليوم، لنناقش كتاب صديقنا العزيز الدكتور وجيه قانصو الذي يُحارب كمحاربٍ من طرازٍ رفيعٍ ضدّ الخرافة والشعوذة والظلام والحماقة، أعني به كتاب " الشيعة الإماميّة بين النصّ والتاريخ". ولَكَم كنتُ سعيدًا بصدور هذا الكتاب، وزادت سعادتي عندما اطّلعت عليه للمرّة الأولى، حيث تيقَّنتُ أنَّ هناك قضيّة مشتركة تجمعني بالمؤلِّف. واكتشفتُ أنّ ما توصَّل اليه الباحث بالبحث التاريخي، توصّلتُ اليه، في غالبيّة خطوطه الرئيسيّة، عبر التفكُّر العقليّ. ووجدْتُ أنّ الكتاب ليس كتابًا في التاريخ بقدر ما هو كتابٌ في الفلسفة، وأنّه كتابٌ من أجل الحاضر أكثر ممّا هو كتابٌ للغوص في الماضي. فوجيه قانصو يقوم بالبحث التاريخي، لكن ليس كمؤرِّخ، بل كفيلسوف. إنّه يقوم بورشة تاريخيّة من أجل التفكُّر في الحاضر، من أجل طرح طريقة جديدة في التفكير تُساعدنا في التّخلص من الأمراض الفكريّة التي نعاني منها، أي باختصار من أجل التفكير بشكل مختلف. وهل الفلسفة الّا التفكير بشكلٍ مختلف بحسب ما يقول فوكو؟
لا يعتقدنَّ أحدٌ أنّ الكتابَ موجَّه الى الشيعة فقط، وتحديدًا الى الشيعة الإماميّة، بل هو موجَّه الى الجميع، أعني الى جميع المذاهب الدينيّة، الاسلاميّة وغير الإسلاميّة، هو موجّه الى الانسان بما هو إنسانٌ عاقلٌ يطرح مشكلاتٍ فكريّة لها علاقة بالله والمعتقد والحقيقة والأنا والآخر، ويطرح هذه المشكلات بطبيعة العقل نفسه. وفي اعتقاديّ أنّ كل من يقرأ هذا الكتاب، أيًّا تكن خلفيَّته الدينيّة، سيجد أنّ الكتاب يمسُّه بالصّميم، وأنَّ الكتاب سيزعزع قناعاته، وسيُجبره على إعادة التفكير في معتقداته وآرائه ومسلّماته التي يطمئنُّ اليها. فالفلسفة لا تُزوِّدنا بقناعاتٍ جديدةٍ، بل تدفعنا الى التساؤل عن الطريقة التي بها كوَّنَّا قناعاتنا. لذا، فإنّ الكتاب سيدفعنا الى التفكُّر مجدَّدًا في ما ندّعي امتلاكه من حقيقة وفي سيرورات هذه الحقيقة وآليّات إنتاجها.فجميعنا، بشكلٍ أو بآخر، لا سيَّما من ينتمي إلى المذاهب الدينيّة، يدَّعي امتلاك الحقيقة حصرًا، يدَّعي أنّه على صواب وغيَره على خطأ، يدّعي أنّه على حق وغيرَه على باطل، يدّعي أنّ ما لديه هو الذهب الخالص النّقي وما لدى غيره، هو، في أحسن الأحوال، جواهر مزيَّفة. من هنا ينشأ التكفير، من هنا ينشأ الاستبداد. فالتكفير هو تكفيرٌ ذهنيٌّ عقليّ قبل أن يكون ممارسات إرهابيّة عنيفة. وقد قلتُ، مرَّة، في عقلِ كلِّ واحدٍ منّا، دُويْعشٌ كامن. بناءً على ما سبق، أرى أنَّ الكتابَ في غاية الأهميّة، وهو يُعالجُ مشكلاتٍ حاضرة، ليس لأنّ هذه المشكلات ما زالت راهنةً، ليس لأنّ التشيُّع ما زال حاضرًا، ما زال فاعلًا  في مجتمعاتنا وحسب، بل لأنّ هذه المشكلات تعود الى الفكر بما هو كذلك.
   ما ينطبق على المذهب الشيعي الاثني عشري ينطبق على غيره من المذاهب. فالكتاب، في رأيي، يبحث عن شروط إمكان مذهب الشيعة الإماميّة، أي ما الذي جعله ممكنًا؟ أي ما الشروط التي جعلت التشيُّع على ما هو عليه الآن؟
ومن المعروف أنّ كنط ابتدع حقلًا جديدًا في الفلسفة هو حقل شروط الإمكان عندما طرح السؤال التالي: كيف يُمكن للأحكام التأليفيّة قبليًّا أن تكون؟ أي كيف لي أن أقول، مثلًا، المعادن تتمدّد بالحرارة؟ ما الشروط التي تسمح بذلك؟
ما ذهب اليه كنط هو البحث عن شروط إمكان كل تجربة ممكنة، لكن ما يذهب اليه الدكتور وجيه هو البحث عن شروط إمكان التجربة الواقعيّة كما بحث قبل ذلك ميشال فوكو. من هنا، يصف دولوز فلسفة فوكو بأنّها كنطيَّة جديدة؛ لأنّها بحثت عن شروط إمكان التجربة الواقعيّة ولأنّها لم تُحِل هذه الشروط الى ذاتٍ مجاوزة. ما ينطبق على فوكو ينطبق أيضًا على قانصو، فقد بحث عن شروط إمكان الظاهرة الشيعيَّة كتجربة واقعية، أي ما الذي جعلها تاريخيًّا ممكنة؟
التشيُّع كمنتج إسلامي
يؤكد الدكتور وجيه أنّ التشيع ليس ظاهرةً طارئةً على تاريخ المسلمين، أي ليس ذا أصلٍ أجنبيّ يتآمر على الاسلام ويحاول اختراقه وتقويضه من الداخل بمعتقداتٍ لا تمتُّ الى الاسلام بصلة. 
   وفي المقابل، ليس التشيُّع سرًّا خاصًّا بجماعة معيَّنة، ادَّعت من خلاله الطهارة والنقاء. كما أنّه لم يظهر دفعةً واحدةً. فالأنظومة الإماميّة ظهرت تدريجيًّا في التاريخ الاسلامي. ما ينفي أنّها حقيقة منجزةٌ متعاليةٌ على التاريخ وتحوّلاته.
باختصار، ليس التشيُّع حدَثًا طارئًا في التاريخ الاسلامي بتدبير من أعداء الاسلام، وليس أمرًا الهيًّا محضًا وخارجًا عن اختيار المسلمين وتفاعلاتهم. يقول الدكتور وجيه:" كان التشيُّع، ولا يزال من التاريخ وفي التاريخ، ويستمرُّ ويتحوّل به، راكم تصوّراتِه وابتكر مفاهيمه وظهرت جماعاته وبنى عصبيّته، داخل سياقٍ زمنيّ وفضاءٍ اجتماعيّ وأحداثٍ سياسيّةٍ في المجال الاسلاميّ، التي حدّدت التشيُّعَ وتحدَّد بها، ولَّدها وتولَّدت منه. فكان في تمظهراته المتنوِّعة، جزءًا عضويًّا من المجال الاسلاميّ العام لا حقيقةً علويّة خارجه، ولا يُدرك أو يُفهم أو يُسرد الا داخله ومن مادة أحداثه".(ص ١٠)
لا ينخرط الدكتور وجيه في جدل الأحقيّة. أيُّ مذهبٍ على حقّ؟ منْ هي الفرقة النّاجية؟، بل أصلًا لا يهتمّ بسؤال ما هو التشيُّع الآن؟ فسؤال الماهيّة هذا يُخفي حقيقة التشيُّع أكثر ممّا يُظهرها. إنّه يهتمُّ بأسئلةٍ أخرى: ما الشروط التي جعلت التشيُّع ممكنًا؟ منْ هم الأشخاص المؤسِّسون للتشيُّع؟ في أيِّ ظروفٍ نشأ التشيُّع؟ لماذا وكيف نشأ؟
بناءً على معالجته لهذه الأسئلة، يجد أنّ التشيُّعَ ليس" طريقَ نجاةٍ أو ضلالٍ، خلاصٍ أو هلاكٍ، موضعَ تقريظٍ أو إدانةٍ، بل هو ظاهرة موضوعيّة كانت حصيلة تفاعلاتٍ وتحوّلاتٍ، اصطفافاتٍ وصراعاتٍ، مآسٍ وانتكاساتٍ، آلياتِ حكمٍ واستراتيجيّاتٍ معارضةٍ، تمثّلاتِ غيبٍ ورؤى وحيٍ، سباقَ مشروعيّة وطرق خلاصٍ، أفرزت جميعها أشكالًا تضامنيّة وعصبيّاتٍ اجتماعيّة وبنًى عقائديّةً وأُطرًا خلاصيّةً، تنوّعت بحسب التموضعاتِ السياسيّة والتراتبيّات الاجتماعيّة، وفرضت توزيعًا خاصًّا للموارد وتبايُنًا في المواقع وتنوُّعًا في الأدوار، وتعدُّديّةً متنافسةً بشدَّةٍ حول مسائل الحق والضلال، الهداية والغواية، الحقيقي والزائف"(ص ١١). هذا يعني أنَّ التشيُّع لم ينشأ بفعلِ تآمرٍ خارجيٍّ كما يدّعي خصومُه، ولا بفعل عنايةٍ الهيّةٍ مباشرة كما يدّعي أصحابه.
إنّ التشيُّع يسبح كما السمكة في ما يُسمِّيه الدكتور وجيه المجال الاسلاميّ. وهو وغيره من المذاهب الاسلامية الأخرى التي اختلفت عنه وناصبته العداء، منتجاتٌ إسلاميّةٌ بامتيازٍ. " إنَّها جميعًا نتاجَ ساحةٍ حضاريّةٍ وسياقٍ تاريخيٍّ مشتركيْن، وتقف على أرضيّةِ تنافسٍ ذاتِ حقلٍ اجتماعيٍّ ومعالمَ جغرافيَّةٍ وتوقيتٍ تاريخيٍّ وزمنٍ أنتروبولوجيٍّ وذهنيةٍ متوسِّطيّةٍ جامعةٍ" ص(١١).
إنّها، باختصارٍ، تنتمي الى فضاءٍ ثقافيٍّ واحدٍ، الى حقلٍ ابستمولوجيٍّ واحدٍ، الى مجالٍ إسلاميٍّ واحدٍ، الى تربةٍ نظريّةٍ واحدةٍ، الى إبستِمه واحدة كما يقول فوكو، رغم الخلافات الكبيرة بينها. هي نشأت على أرضيّةٍ ثقافيّةٍ واحدةٍ ومشتركةٍ. لذا، فإنَّ التشيُّعَ ليس ظاهرةً معلّقةً في الهواء، بل هو ظاهرةٌ اجتماعيّة إسلاميّة نشأت وتفاعلت في بيئةٍ محدّدةٍ وعرَفَت تحوُّلاتٍ ومراحلّ نموٍّ عديدة ومختلفةً. إنّ البحث عن ظاهرة التشيُّع، بالطريقة التي يعتمدها الدكتور وجيه، لهو بحثٌ في العقل الاسلاميّ نفسه، بل في العقل البشريّ نفسه. "البحث في التشيُّع، ليس بحثًا حول مجموعةٍ بشريّةٍ خاصّةٍ، كوَّنت عقائدها في لحظةٍ تاريخيّةٍ معيَّنةٍ، واستمرَّت عليه لبناء كيانيَّتها التاريخيّة والاجتماعيّة، بل هو بحثٌ في التاريخ الاسلاميِّ نفسه، وبحثٌ في العقلِ الاسلاميِّ الذي اتّخذ في كلِّ مرحلةٍ سياسيّةٍ حاسمةٍ منطلقاتٍ جديدةً وممارساتِ سلطةٍ، أنتجت جميعها فِرَقًا وقوًى متعدِّدةً، تنوَّعت في مقترحاتها حول القداسة والحقيقة والتاريخ، رغم وقوفها جميعًا على أرضٍ واحدةٍ"(ص ١٣). لذا، قلنا إنّ عمل الدكتور وجيه هو عمل فيلسوفٍ وليس عملَ مؤرِّخٍ، وإن كان البحثُ تاريخيًّا. إنّ قانصو يحفر في طبقات المجال الاسلاميّ، كما فعل فوكو في حفريّاته وحفر في فضاء الثقافة الأوروبيّة، ليبحث عن الشروط التي جعلت التشيُّع ممكنًا، لكنْ لا ليكون همُّنا أن نعرفَ حقيقة التشيُّع، بل ليكون بإمكاننا أن نفكِّر بطريقةٍ مختلفةٍ. مع كتاب الشيعة الاماميّة بين النصّ والتاريخ، يصبح التفكير في الاسلام من جديد ممكنًا، بل يُصبح التفكيرُ ذاتُه ممكنًا.
ما ينطبق على ظاهرة التشيُّع ينطبق على غيره من المذاهب. فإذا كان التشيُّع ظاهرةً تاريخيّة عرَفَت مرحلةَ ولادةٍ ومراحلَ نموٍّ مختلفة وتحوّلات عديدةً فرضتها الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة، فإنّه لن يكون، بأيِّ حالٍ من الأحوالِ، حقيقةً ثابتةً وواحدةً، الهيّة ومتعاليةً، طاهرةً ونقيّةً كما يدعي أصحابُ التشيُّع. إنّها منتج إسلاميّ ونتاجُ عملٍ بشريٍّ استمرَّ لقرونٍ. يقول الدكتور وجيه:" إذًا نحن أمام ظاهرةٍ تاريخيّةٍ، لا تقتصر على حدثٍ تأسيسيٍّ حصريٍّ، بل ظهرت ونمَت واتخذت هيئةً اجتماعيّةً ذاتَ طبيعةٍ مؤسّساتيّة مستقرةٍ نسبيًّا، في سياقِ تشكُّلٍ بطيءٍ لأحداثٍ متعاقبة وتحوُّلاتٍ متراكمةٍ"( ص١٣). ويضيف: "التشيُّعُ إذًا ليس فكرةً حقَّةً ثابتةً [...]، بل هو منذ البداية نتاج أحداثٍ متعاقبةٍ بعد النبيّ، فرض إيقاعها، السياسيُّ والاجتماعي والاقتصاديُّ، ظهورَ جماعةٍ خاصةٍ ذات موقفٍ محدد من مجرياتِ الأمور، وأنشأت لنفسها، بمفعولٍ رجعيّ، خطابَ حقٍّ وحقيقة، لا ينتج فهمًا خاصًّا بالحدث التاريخي فحسب، بل يُنشىء روايةً خاصةً به للحدث النبوي وقصة الخلق"( صص١٥/١٦).

مراحل التشيُّعِ الإماميّ
  اتَّخذ التشيُّعُ، في نظر الدكتور وجيه، ثلاث مراحل:
1- مرحلة التشيُّعِ السياسيّ: امتدَّت هذه المرحلة من فترة حكم الامام عليّ وحتى استشهاد ولده الامام الحسين. غلبَ على التشيّع حينذاك الولاء السياسيّ الخالص والذي خلا من أيِّ مضمونٍ عقائديّ. لا شروط للإنتماء إليه، وبالإمكان الخروج منه من دون تبِعاتٍ، فهو لا يُشكِّل شرطًا من شروط الانتماء الى الاسلام.
2- مرحلة بناء الجماعة أو الفرقة الشيعيّة:  بدأت هذه المرحلة بعد استشهاد الامام الحسين حيث كان للمأساةِ دورٌ في توليد شعورٍ تضامنيٍّ بين الجماعات الشيعيّة. يقول قانصو:" فبدأ شعور الانتماء الى الجماعة الخاصة، يطغى على شعور الانتماء الى المجتمع الأوسع" (ص٥٣٥)  إنّ عقيدة الإمامة بدأت تظهر عندما اعتبرت السلطة القائمة أنّها تُجسِّدُ إرادةَ الله على الأرض، فنُسِبَت الى الامام صفاتٌ استثنائيّة وخارقة، واعتُبِر أنّ في موالاة الإمام خلاصًا أخرويًّا. بهذا، لم يعد الشيعة حزبًا سياسيًّا، فشكَّلُوا فرقةً ذات عصبيّة خاصة. 
3- مرحلة تأسيس المذهب الإثني عشري: أعقبت هذه المرحلة وفاة الامام الحادي عشر، أي الحسن العسكري. " تختلف هذه المرحلة عن سابقتها في أنّها أقفلت بنود اعتقاد المذهب بعدما كانت في السّابق مفتوحةً، وأحكمت تشييدها بالرواية والدَّليل العقلي، بعدما كانت تُتداول في السابق بصيغ سطحيّة"(ص٥٣٧).من هنا ظهرت طبقة متخصصين عوَّضت غياب الإمام الثاني عشر يُوكلُ إليها إدارة الشؤون الدينية للمذهب.  الملفت في الأمر أنَّنا لا نجدُ اختلافًا بين المذاهب الاسلاميّة بالنسبة الى مفهوم السلطة حيث أسَّسها الجميع على عقيدة الاصطفاء الالهي.يقول قانصو:" وحين تطور مفهوم السلطة من شأنٍ عامٍ الى شأنٍ غيبيٍّ، يُوسِّط فيه الله شخص الخليفة لإظهار إرادته وتحقيق تدبيره للكون، شكّل ذلك موادَّ أوليّة لمعتقد الإماميّة، وبدأنا نشهد ظهور تكوينٍ شيعيٍّ يتمحور حول "الامام القطب" بافتراض قدراتٍ فوق طبيعيّة في "الامام".(ص٥٣٨)
 
منهجيَّة الدكتور وجيه قانصو في قراءة الظاهرة الشيعيّة
بإمكاننا القول إنّ الدكتور وجيه قد تميَّز بمنهجه في قراءة التاريخ الاسلامي، في قراءته لظاهرة التشيُّع كظاهرة تاريخيّة، في قراءته للوثيقة التاريخيّة. فالوثائق التي استند اليها معروفة في كتب التراث. وهو لم يكتشف وثائق جديدة، بل عمَد الى قراءتها بطريقة مختلفة، عمَد الى قراءتها بوصفه فيلسوفًا، استفاد ممّا أنتجه الفكر الحديث، لا سيّما ممّا أتى به ميشال فوكو في أعماله الحفريّة التي هدَفت الى العثور على المنطلق الذي منه كانت المعارف والعلوم ممكنة، وفي أعماله النسابيّة التي هدَفت الى البحث عن الأصل وعن قيمة هذا الأصل، والتي هدَفت الى البحث عن الحسب والنَّسب، وقدَّمت أفهومًا جديدًا للسلطة بحيث تحدّث عن هذا المركّب الذي سمّاه السلطة-معرفة أو بحسب ترجمتنا السلطة-عِلمان.
لقد قدَّم الدكتور وجيه آليّاتٍ جديدة في فهم الوثيقة التّاريخيّة مميِّزًا بين زمنيْن: زمن مضمون الرواية وزمن الرّاوي، وهو الأهم، الذي يعتبر جزءًا من زمن تطور الظاهرة الشيعيّة وتشكّلها. اذًا، علينا أن نميِّز بين مضمون الخبر وبين الذهنيّة التي صاغت الخبر لحظة روايته أو إدراجه داخل مصنّف روائي أو تاريخي.
  يقول الدكتور وجيه:" التشيّع ظاهرة تاريخيّة، تستدعي توثيقها وتركيبها وفهمها. أي النظر في الوثائق التي وصلتنا والتحقق من صدقيّة هذه الوثائق، وتعقّب هذه الظاهرة من خلال الوثائق الموزّعة والمنتشرة، والعمل على تركيب حقيقتها استنادًا الى المعطيات المتوافرة التي تشير إليها إمّا مباشرةً وإمّا ضمنًا وإمّا تُلمِّح إليها من بعيد"(ص١٨).
فالظاهرة الشيعيّة ليست مجرّد سلسلة أحداث تطفو على السطح، فهي تقوم أصلًا على بنية تفكير وعلى نظرة خاصة الى الدين الجديد، "ممّا يجعلها ظاهرةً ثقافيّةً بامتياز لا يمكن تلمُّسها وتعرّفها بمجرّد تجميع الوثائق المدوّنة حولها، أو تحقيب مراحلها بحسب أحداثها الكبرى والبارزة. إنّها ظاهرة تأويل بامتياز، تقف حقائقها ووقائعها وراء الظاهر من الوثيقة التاريخيّة، ولا يمكن فهمها بسرد وقائعها، بل بالوقوف خلف الرؤية التاريخيّة نفسها لتعرّف دوافعها وغاياتها، والذهنيّات المتحكمة في روايتها وتدوينها، وبالنظر الى التّاريخ لا في سياقه السرديّ بل في امتداده الزمني بعيد المدى، ليكون بالامكان الكشف عن تحوّلاتها البنيويّة التي لا يمكن أن ترى أو تُلْحظ في زمنٍ أو جيلٍ خاص" (ص١٨).
قلنا إنّ الدكتور وجيه لا يهدف الى استعراض التشيّع في وضعيّته المنجزة الحاضرة، في تماسك أنظومته الفكريّة والعقائديّة الحاليّة. إنّ بحثه يحاول "تفسير أسباب الظاهرة الشيعيّة والكشف عن نشوئها ومسار تطورها"(ص٢٢). إنّ الظاهرة الشيعيّة بما هي ظاهرة تاريخيّة واجتماعيّة وسياسيّة ومعرفيّة يجب أن " تُقرأ وتُوصَّف وتُحلّل وتُفسَّر، ويتم اقتراح نماذج تأويليّة لفهمها وكشف طبقاتها المطمورة والمغطّاة بغشاء بداهة ركيك ويقين خادع، والانسلاك في تعريتها وفضح تلاعباتها لا الانصياع لإملاءاتها وانحيازاتها"(ص٢٢).
سأكتفي بهذه الاشارة العامة الى منهجيّة الدكتور وجيه قانصو في قراءته لظاهرة التشيّع التاريخيّة. وهو قد فصّل منهجيّته في الفصل الأول من كتابه الذي يقع في حوالي ستين صفحة، اذ ليس بالامكان استعراض كلّ ما أتى به على هذا الصعيد.
 
الحركة الثقافية – انطلياس
           9 آذار 2017​