"لو بقيت سوريا كما كانت أيام الجنرال غورو، لما حصل كل ما تشهده هذه الأيام" يقول دبلوماسي أوروبي متابع لتطورات الأوضاع في سوريا. ويعتبر أن الحلّ للأزمة السورية لن يكون في ما بعد إلا وفق هذه القاعدة، لكن بالإطار السياسي الدولتي القائم. 

هناك قراءة واقعية تفيد بأنه لا يمكن للأسد أن يحكم سوريا منفرداً، وقد يكون الاتجاه نحو لا مركزية موسعة تعتمد التقسيمات التي كانت قائمة أيام الإنتداب الفرنسي، وكانت مقسمة إلى خمس دويلات: دولة دمشق، دولة حلب، دولة جبل الدروز، دولة جبل العلويين، دولة لبنان الكبير. في الثلاثينيات، أصدر ليون بلوم، رئيس الحكومة الفرنسية عام 1936 قراراً بإلغاء هذه التقسيمات، خوفاً من تحالف العرب في هذه المنطقة مع هتلر، باستثناء الإسكندرون ولبنان، وفي حينها بعث علويو سوريا برسالة رافضة لضمّهم الى المسلمين، بحسب ما تظهر وثيقة محفوظة في الخارجية الفرنسية. ولذلك، ثمة من يعتبر أن سوريا المقبلة ستكون وفقاً لقاعدة سايكس-بيكو الجغرافية مع إعادة توزيع في الصلاحيات وإرساء نظام قائم على اللامركزية الموسعة.

منذ دخول حزب الله إلى سوريا، وبالنظر إلى خريطة المعارك التي خاضها والنتائج التي أسفرت عنها، تجلّت وجهة نظر بأن لدى الحزب والمحور الذي ينتمي إليه شبه قناعة بأن سوريا التي يعرفها الجميع ذهبت ولن تعود، وبأنه من المستحيل على النظام السوري أن يعود ليحكم سوريا الواحدة أو الموحدة. ولذلك برز مجدداً مصطلح سوريا المفيدة التي تمتد من دمشق إلى ريفها، فحمص في الوسط إلى حماه ربطاً بالساحل السوري. خريطة المعارك وعمليات التهجير المنهجي والمنظم التي طالت المدنيين في هذه المناطق تثبت ذلك. وبينما لم يكن أحد يتوقّع أن تسقط حلب في قبضة النظام السوري وحلفائه، فإن السؤال الأساسي الذي يطرح الآن هو حول مصير سوريا بعد سيطرة النظام على العاصمة الإقتصادية.

جغرافياً، فإن موقع حلب في الشمال الغربي لسوريا، يضعها أيضاً على خريطة سوريا المفيدة. وعليه، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن حول ما بعد حلب، إذا ما كانت سوريا ستعود إلى الوحدة، أم أنها تسير نحو التقسيم بين مفيدة وغير مفيدة، أو بالحد الأدنى لامركزية إدارية وسياسية موسّعة

وحتى ولو سقطت مدينة حلب عسكرياً في قبضة النظام وحلفائه، ثمة عوامل لا يمكن التغاضي عنها، وهو دور الأكراد ونطاق حدوده، والدور التركي الآخذ في التمدد شمال المحافظة، في مقابل الموقف الروسي من هذا الدور. المفاوضات بين الأتراك والروس لم تتوقف حول حلب، وهنا يعتبر البعض أن تركيا ستحتفظ بسيطرتها على مساحة تشكل ضامناً لأمنها القومي، فيما قلب المدينة سيكون في جانب النظام.

لكن السيطرة على حلب، تحتم بالنسبة إلى الروس والنظام إكمال السيطرة على إدلب، لأنه لا يمكن بقاء تلك المحافظة مقرّاً رئيسياً ووحيداً لقوى المعارضة المسلّحة بما قد يشكّل تهديداً مستمراً للمناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وبما أن إدلب أيضاً تقع في الشمال الغربي لسوريا، والشمال الشرقي لسوريا المفيدة، ثمة من يعتبر أنها ستكون قبلة المعارك التالية بعد حلب، لأن الهدف هو تغيير جيو-استراتيجي في سوريا ككل.

الرئيس السوري بشار الأسد يصرّ على الحديث عن وحدة سوريا، وأن المعارك لن تنتهي قبل إستعادة السيطرة على كل المناطق. لكن هذا تدحضه الوقائع حتى الآن، إذ إنه لا يمكن لطرف التعايش مع الطرف الذي قتله وفتك به وهجّر أهله، فضلاً عن أن هناك أسباباً سياسية وغير سياسية، داخلية وخارجية، تجعل من الحديث عن الوحدة غلافاً هشّاً للواقع. فبعد سيطرة المعارضة على إدلب، طرح النظام السوري على الإيرانيين الإستعداد لشن معركة لاستعادتها، لكن في حينها، رفض الإيرانيون ذلك، على قاعدة أن لا حاجة لاستعادة المناطق البعيدة وتكبد خسائر كبرى في سبيل استعادتها، وكانت الوجهة الإيرانية في إجراء مفاوضات على قاعدة التبادل والترانسفير، والجميع يذكر الزبداني ومضايا مقابل كفريا والفوعة.

في ذلك الوقت زار اللواء علي مملوك المملكة العربية السعودية بمسعى روسي، وقد استفادت روسيا من التمسك العربي بوحدة سوريا للدخول بكل ثقلها إلى الميدان، ومنذ التدخل الروسي توقف استكمال بنود الإتفاق الذي أراده الجانب الإيراني على قاعدة الترانسفير، وأيضاً سقطت الهدنة في الزبداني وكفريا والفوعة لتعيد موسكو تكريسها وفقاً لقواعدها وشروطها. واليوم يتطابق كلام النظام السوري مع الكلام الروسي حول إستعادة كامل الاراضي السورية، الذي لا يبدو متاحاً حتى الآن.

تتأرجح سوريا في المصطلحات السياسية بين التقسيم، أو اللامركزية الموسعة. والتقسيم هنا لن يكون على أساس طائفي ومذهبي، بل على أساس سياسي، خصوصاً أن السنة في سوريا يشكّلون النسبة الأكبر من الشعب السوري، ولذلك، فلا شيء محسوماً بعد، لأن الحرب لن تضع أوزارها، وبعد حلب ثمة خطوة عسكرية كبرى مقبلة بحسب ما تردد أوساط حزب الله، وقد تكون نحو إدلب أو الرقة أو الغوطة الشرقية، وفيما بعد يبدأ البحث في المسار السياسي للأزمة السورية.

وفي مقابل هذه الصيغة، ثمة من يعتبر أن على الجميع التعاطي بواقعية، وأنه لن يكون هناك أي طرف منتصر في حرب كهذه، فإذا بقي الأسد لن يتمتع بصلاحياته الرئاسية نفسها، بل سيكون لديه نواب للرئيس، وسيتم نقل جزء من هذه الصلاحيات إلى مجلس الوزراء، على قاعدة لا مركزية موسعة، وفي هذا ما يشبه الطائف اللبناني، ويشبه الحلّ العراقي، وفي الحالتين، جرى توزيع الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية، البرلمان، الحكومة) على المذاهب.