حصَد الرئيس سعد الحريري شِبه إجماع على مستوى تسميته رئيساً للحكومة العتيدة. إجماع ينقصه «حزب الله»، علماً أنّ الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله كان قد سمّاه على طريقته مرشّحاً لتشكيلها، حتى قبل عَقد جلسة انتخاب الرئيس ميشال عون، حينما أسقط في صندوق الاستشارات النيابية على نحو مبكِر عبارة «لا أمانع».كانت هناك بدايةُ خشيةٍ من أنّ كتلة الرئيس نبيه برّي النيابية لن تسمّيه، مع تقديم تفسير بالممارسة العملية لهذا الغياب الشيعي عن تسميته، يوضح أنّه ليس «فيتو شيعياً ميثاقياً» عليه، بل نوع من تسميته شيعياً بعبارة «لعم».

لكنّ برّي الذي أخفى قراره حتى عن أعوانه في انتظار لحظة إنضاج حساباته، استدرَك في آخر مساء قبل أوان دورِ كتلته في الاستشارات النيابية، أنّ إحجامَه عن تسميته سيكون له مردودات سياسية أقلّ إنتاجية على مستوى خدمة تعبيره عن «الجهاد الأكبر» من المشاركة في تسميته.

ضمن حسبة بري، ظهرَ بدايةً أنّ «عدم التسمية» يتناقض، ولو معنوياً، مع استمرار قوّة الدفع التي تحظى بها عين التينة كمكان وحاضنة مفضّلة لاستقبال آليّة إطفاء الاحتقان السنّي - الشيعي بواسطة حوار «حزب الله» و«المستقبل» الذي يرعاه.

وثانيها، لأنّ «عدم التسمية» سيوحي ولو رمزياً أيضاً، بأنّ بري خارج صورة عهد الرؤساء الأقوياء الثلاثة الذي قام على أساسه ترشيح عون لنفسه ودعم «حزب الله» له كرئيس للجمهورية لا بديل له.

وحتى موعد الانتخابات النيابية، فإنّ ثلاثية عون - بري - الحريري الرئاسية، تُعتبر «تسوية ميثاقية»، لأنّهم ممثّلو الغالبيات المسيحية والإسلامية في البلد. وستظلّ صورتهم هذه سارية المفعول في انتظار أن تثبتَ صناديق الانتخابات النيابية المقبلة صحّتها مِن عدمه.

هناك حاليّاً وافدٌ جديد من خارج نادي الرئاسات الثلاث يحاول حجزَ مقعدٍ سياديّ له في الحكومة بصفته شريكاً في عهد ممثّلي الغالبيات، وهو رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع الذي يطالب بوزارة لها رمزية فوق العادة حتى داخل الوزارات السيادية الأربعة، كونها شريكةً في التوقيع السيادي الذي له معادل رئاسي. ثمّة سوابق في تقاليد الحياة السياسية اللبنانية توضح المعنى الآنف الذي يريد جعجع إدراكه.

كمال جنبلاط مُنح قبَيل الحرب الأهلية وزارة الداخلية تعويضاً له عن كونه درزياً لا يستطيع لأسباب العرفِ الوصولَ إلى منصب رئاسة الجمهورية المخصّص للموارنة. تمّ إقناع جنبلاط الذي كان رجلَ المرحلة الإقليمية الفلسطينية والعربية واليسارية والإسلامية الصاعدة في لبنان، بأنّ وزارة الداخلية هي رئاسة رابعة غير معلَنة، فضمنَ سلطتِها توجد البلديات وأجهزة الأمن الداخلي والانتخابات، بمعنى آخر، تُقارب سلطاتها أنّها رئاسية.

ضمن المنطق نفسه تعويض الزعماء الأقوياء عن نَيل رئاسة لم تصل إليهم لأسباب جينية أو سياسية، نال أيضاً العميد ريمون إدة وزارة الداخلية التي كانت أيام الجمهورية الأولى، كوزارة المال في زمن «إتفاق الطائف»، تتّصف بحقيبة أكثر من سيادية حكومية، بل فيها معنى فخامة رئيس الظلّ.

وربّما كان جعجع قد قرَأ سالفاً قصّة التعويض الذي ناله جنبلاط الأب وإدة العميد، فتذكّر من خارج أيّ تفاعل طبيعي لخلفيته السياسية اليمينية كمال جنبلاط الذي أدرك بمفعول رجعي أنّه رغم خلافه معه، إلّا أنّه لا ينكِر معنى تمثيله الكبير، وما لم يقله جعجع إنّه يؤيّد أن يكرّر عون معه النموذجَ الذي اتّبعَه رؤساءُ موارنة الجمهورية الأولى مع جنبلاط من خلال إسناد الداخلية له، لتعويضه حجمَه الكبير الذي حرَمه العرف الدستوري في البلد من نيله رئاسة.

بعد «الطائف» أصبَح توقيع وزير المال سياديّاً، ومن دونه لا تكتمل دورة تحوّل أيّ قرار أو تشريع واقعاً نافذاً. ومن هنا يطالب جعجع بإسنادها إليه، كتعويض - من وجهة ما يضمره - عن تنازُله عن رئاسة الجمهورية لعون، وانطلاقاً من اعتبار نفسِه شريكاً رئاسياً في عهد الغالبيتَين المسيحيتين، وليس شريكاً سياسياً فقط.

ليس وارداً في حسابات الثنائية الشيعية التنازُل عن وزارة المال، فهي من وجهة نظرهما «امتياز ميثاقي» ولو له صفة العرف، وصَل للشيعة جرّاء انتقال لبنان من جمهورية المارونية السياسية الأولى إلى جمهورية مجلس الوزراء مجتمعاً الثانية أو الثالثة حسب ترقيم عون لها.
على أنّ كلام جعجع عن إسناد وزارة المال إلى «القوات»، قرأته أوساط الغرَف العميقة في الثنائية الشيعية، انطلاقاً من ثلاث زوايا:

أوّلاً - حركة «أمل» و«حزب الله» يعتبران أنّ جعجع يَرفع سقفه في اتّجاه المال ليحصل على أيّ حقيبة سيادية، خصوصاً بعد تسرّب معلومات له بأنّ الحزب لن يوافق على أن يكون «طربوش» سياسة لبنان الخارجية «قوّاتياً».

ثانياً- ما يُزعج برّي في كلام جعجع، حسب مصادر الأول، أنّه قدّم مطالبته بوزراة المال انطلاقاً من أنّ «القوات» تمتاز بشفافية، وفي هذا غمزٌ مِن قناة أنّ حركة «أمل» لم تمارس شفافية في هذه الوزارة. وأكثر من ذلك طرَح جعجع حقيبة المال في عهد عون بصفتها ليست عنواناً لحصّة الشيعة السيادية في عرف «الطائف»، بل هي عنوان لبدء تطبيق القضاء على الفساد منها.

هذا الغمز «القوّاتي» من قناة بري كانت له بداية أزعَجت الأخير أيضاً، وذلك عندما اعتبَر جعجع أنّ اختبار صدقية جدّية نصرالله بترشيح عون تكمن في ضغطه على بري ليسيرَ به. وتتضمّن هذه «الفذلكة القواتية» غمزاً من قناة أنّ بري في جيب نصرالله. وهو أمرٌ اضطرّ الأخير لإيضاحه أكثر من مرّة لأنه يرمي إلى دقّ إسفين بين قطبَي معادلة الثنائية الشيعية الثمينة استراتيجياً على حزب الله.

ثالثاً - منذ البداية سمّى نصرالله ترشيحَ جعجع لعون بأنّه ينطوي على خُبث. وربّما سيتمّ تفعيل هذا التوصيف ليأخذَ ترجمةً عملية من خلال صوغِ مواقف مشترَكة بين بري ونصرالله لمحاصرة حصّة جعجع داخل حكومة الحريري وداخل عهد عون ككلّ.