أغارت قوات البوليس التركي على جريدة "جمهورييت" أعرق جريدة في الجمهورية التركية والاسم الصحفي الملازم لجمهوريتها ولعلمانيتها في صيغها الأكثر تقليدية. هذه المرة ليس لاعتقال رئيس تحرير أصبح لاجئاً سياسياً خارج البلاد، مثله مثل كثيرين، ولا فقط لملاحقة زوجته كوسيلة للضغط عليه، وإنما لما هو أكثر تخلفاً: اعتقال جماعي لمعلقين ومحررين وإداريين فيها.

لا تتفاقم الأمور اليوم في تركيا. لقد تفاقمت منذ عام 2013. ولكنها اليوم تسْوَدُّ كأن لا شمس تضيء يومَ اسطنبول، بل ضبابٌ كثيف يأتي من سماء سياسية ظالمة وفاجرة. إنه ليس ذلك الضباب الذي يثير الـ"هوزون"، الكلمة التي أخذها الأتراك عن اللغة العربية أي "الحزن" والتي يتحدّث عنها أورهان باموك في أحد أجمل فصول كتابه "اسطنبول"، الفصل الذي حمل هذا العنوان: hüzün، وهو بالمناسبة ليس حزناً "شيعياً" كما بلوره الإيرانيون، وإنما حزن رومنطيقي عبرت عنه قبل حوالي مائة عام لوحة شهيرة رسمها آخر سلطان عثماني (عبد المجيد) تحت عنوان: "ضباب". هذا مع العلم أن التقليد الفقهي العثماني السني يمجد آل البيت مثل التقليد الإسلامي المصري. لكن هذا "حزن" آخر كئيب حنون وغير غاضب.
ما أتحدث عنه في تركيا أردوغان اليوم ليست تلك الرومنطيقية المرتبطة بجذور التجربة الحداثية التركية وإنما بإحساس بالقهر يملأ صدور نخبة تركية واسعة تتعرض لـ"مجزرة" استئصال فكري وإعلامي وسياسي يأخذ المزيد من الأبعاد العالمثالثية المتخلفة والوقحة.
أنا الذي فقدتُ اهتمامي بتركيا، تركيا التي أشعلت مخيلتي ومخيلة كثيرين بطموحاتها وإنجازاتها الحداثية في عالم مسلم بلا أفق من باكستان إلى موريتانيا كانت هي أُفُقَهُ الوحيد، أجدني دائماً أعود إلى الشؤون التركية التي صارت شجوناً أكثر منها شؤوناً.
قرأتُ لمصطفى أكيول، أحد المميزين بين المعلقين الأتراك، مقالاً صباح أمس يلاحظ فيه بعد حضوره مؤتمراً في أوروبا أن نوع الاهتمام بتركيا تغيرت طبيعته: لم يعد يأتي ذكر تركيا في مجال المشاكل الأوروبية الديموقراطية وإنما في مجال مشاكل الدول المتخلفة والديكتاتورية.
مقالتي هذه بالنسبة لي هي من فئة مقالات ما بعد "الموت" التركي. موت النموذج. ستبقى تركيا بلداً مهماً في الجغرافيا السياسية ولكنها لم تعد "دولة مستقبل" سياسي ديموقراطي متقدم. انضمّت إلى المنطقة جنوبها، إلى الشرق الأوسط والعالم العربي. هذا قلناه سابقاً.
غير أن النقطة التي استرعت انتباهي بعد قراءتي خبر مداهمة "جمهورييت" هي مدى ضعف بل هزال موقف حزب الشعب الجمهوري الذي يمثل أو يفترض أن يمثل، بدءاً من الإسم، الدفاع عن العلمانية التركية وهو الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك.
صحيح أن هذا الحزب استيقظ مؤخراً من سبات أصابه به استخدام الرئيس رجب طيب أردوغان للمحاولة الانقلابية في استجرار تأييد معارضيه لهجومه على الصحافة والقضاء والبوليس ورجال الأعمال والجامعات ووو... وبدأ حزب الشعب الجمهوري تسجيل اعتراضات باهتة على موجة القمع التي غيَّرت النظام السياسي عملياً، إلا أن هذا الاعتراض لا يزال دون المطلوب بكثير كأنما يبدو هذا الحزب، كأحزاب أخرى، مخصياً، أو أن اعتراضه يشبه اعتراض الخصيان.
يحمل الغضب النخبوي العلماني الليبرالي التركي في المدن ضد الديكتاتورية المتزايدة إمكانات انتفاضة سياسية مدنية سلمية.
لقد أصبح حكم "حزب العدالة والتنمية" بلا نخبة. فتنظيم فتح الله غولن كان هو النخبة الإسلامية التي تحالف معها وعملياً "استعارها" رجب طيب أردوغان في فترات صعوده في العشر سنين الأولى. كانت الغولينيون نخبة واسعة لا يملك مثلها حزب العدالة والتنمية، وهذه، حتى في تركيا، هي حال الحركات الأصولية وخصوصاً "الإخوان المسلمين" الذين، مع بعض الاستثناءات، يفتقدون دائماً النخبة الإدارية والثقافية والتربوية والاجتماعية التي تحتاجها شعبيتهم الواسعة. الآن... لقد انقضّ أردوغان على نخبة "مستعارة" كانت مؤمنة بالقيم الغربية التي يجب أن يتصالح معها الإسلام من دون تردد كما تعتقد.
التهمة التي يوجهها المدعي العام إلى صحافيي "جمهورييت" العلمانيين هي التآمر مع الإسلاميين الغولينيين وهي تهمة أصابت ذات يوم في سوريا بعض أقصى اليسار الماركسي من حيث اتهامهم بالتعامل مع "الإخوان المسلمين" كما أصابت الشيوعيين و"مجاهدين خلق" في إيران الإسلامية...
أيا تكن هذه المقارنات صالحة أو غير صالحة! الأكيد أن شمس الحداثة السياسية لم تعد تسطع في تركيا التي بدأ شتاؤها في صيف 2013 في ساحة تقسيم في اسطنبول.