كان لبنان ولا يزال «الترمومتر» الأفضل لقياس حرارة التوازنات الإقليمية. لذلك يعدّ انتخاب رئيس جديد للبلاد أمراً مهماً لتقدير أوزان القوى المحلية اللبنانية، وكذلك القوى الإقليمية المتنافسة على الأرض اللبنانية. يعيش لبنان فراغاً رئاسياً منذ ما يزيد عن السنتين. واعتاد المراقبون أن تنتعش بورصة التكهنات بقرب انتخاب رئيس بين الفينة والأخرى، قبل أن تعود الآمال لتتبخر بسبب انقسام النخبة السياسية وتناحرها. في الأيام الأخيرة عادت بورصة التوقعات لتنتعش من جديد، بعدما قرر سعد الحريري زعيم تيار «المستقبل» (أكبر كتلة في البرلمان اللبناني والتي تحوز معظم المقاعد المخصصة للمسلمين السنة) في مفارقة لافتة ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية. وسبب المفارقة هنا أن عون هو المرشح المفضّل المعلن لـ «حزب الله» المعبّر عن قسم كبير من المسلمين الشيعة، وخصم «تيار المستقبل» اللبناني، الذي يقوده الحريري. بحسب الدستور اللبناني يقوم البرلمان المكوّن من مئة وثمانية وعشرين مقعداً بانتخاب رئيس الجمهورية، بحيث يتطلب الأمر أغلبية الثلثين زائداً واحداً (86 مقعداً) من الجولة الأولى. وفي حال لم يتحقق ذلك يمكن انتخاب رئيس من الجولة الثانية بأغلبية النصف زائداً واحداً (65 مقعداً). حتى اللحظة تبدو الأمور على السطح سائرة في اتجاه انتخاب العماد ميشال عون رئيساً بسبب توافر أغلبية النصف زائداً واحداً نظرياً، لذلك تركز الغالبية الساحقة من التحليلات في لبنان وخارجه على أن مسألة انتخاب عون صارت أمراً مفروغاً منه، ولا تنظر إلى ما هو أبعد من ذلك.
عون المرشح الأقوى أم المرشح الأضعف؟
يدور النقاش في المنتديات الإعلامية والسياسية اللبنانية حول القوة المفترضة للمرشحين لرئاسة الجمهورية، ويكاسر مؤيدو المرشح الرئاسي ميشال عون خصومهم بكونه «الأقوى» مسيحياً ومارونياً، مستدلّين على ذلك بأمور عدة يتقدمها عدد المقاعد التي تملكها كتلته في البرلمان. ومن دون الدخول في نقاشات حول معايير القوة بين المرشحين، لا ينبغي أن تفوت ملاحظة أن «اتفاق الطائف» الذي يقولب الوضع السياسي في لبنان حتى الآن عكس في العام 1990 موازين قوى مخالفة لتلك التي سادت العام 1943، كما أن موازين القوى الآن العام 2016 تضع المسيحيين ـ بسبب الهجرة والديموغرافيا ـ في وضعية أكثر تراجعاً. مهما كان اسم المرشح الماروني لرئاسة الجمهورية اللبنانية، لا تبدو موازين القوى المحلية في لبنان والمائلة لغير مصلحة المسيحيين قابلة للتعديل في المدى المنظور والمتوسط. وبالإضافة إلى عامل الديموغرافيا، يظهر عامل الدعم الإقليمي والدولي للمسيحيين في لبنان وتراجعه الواضح كاعتبار يزيد من خفة الوزن في الميزان اللبناني.
لا يملك «المرشح الأقوى» ميشال عون ولا منافسه سمير جعجع وكالة إقليمية مباشرة مثل «حزب الله» لإيران أو «تيار المستقبل» للسعودية، بمعنى أن حضور عون في المعادلة الإقليمية مرتبط بتحالفه مع «حزب الله» وليس بالأصالة عن نفسه. ويبدو أن «حزب الله» و»القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع يدعمان ترشيح عون علناً، لكنهما ربما يفضلان عدم انتخابه فعلاً ويتركان سقوطه لآخرين، رفعاً للعتب وغسلاً لليد ـ كل لأسبابه الخاصة ـ مع العلم أن هذه المقالة كتبت قبل خطاب حسن نصر الله أمس الأحد. وبدا من احتدام النقاش الإعلامي وانشغاله بحساب عدد المقاعد المؤيدة لعون وتلك المعارضة له، عبر استعراض أسماء النواب في البرلمان اللبناني وكتلهم السياسية، أن انتخاب عون قد صار أمراً حتمياً، وكأن أهمية الانتخابات الرئاسية اللبنانية تنبع فقط من شخصية الجالس في قصر بعبدا وليس بالتوازنات المحلية والإقليمية التي يعكسها انتخابه.
فات على الجازمين بانتخاب عون دون النظر إلى ما هو أبعد من ذلك أن قائمة معارضي عون تضم كتلة المخضرم نبيه بري زعيم «حركة أمل» الممثلة لقسم من المسلمين الشيعة ورئيس البرلمان، فضلاً عن كتلة المتمرّس وليد جنبلاط زعيم الدروز في لبنان. كلاهما يمتلك كتلة تربو على أحد عشر مقعداً، لكن تأثيرهما في حياة لبنان السياسية منذ الحرب الأهلية وحتى الآن يتجاوز بكثير عدد مقاعدهما في البرلمان. لم يعرف عن أي منهما تفضيله للمعارضة أو ميله نحو إعادة انتاج قوته خارج إطار الدولة اللبنانية ومواردها، ومع ذلك فقد أعلنا معارضتهما لانتخاب عون، وهو أمر جدير بالتدبر والقراءة.
الحريري وثمن التسوية الرئاسية
برغم البلاغة الخطابية التي حفل بها خطاب سعد الحريري بمناسبة ترشيح ميشال عون للرئاسة اللبنانية، إلا أن الكلمات المنمّقة لم تستطع حجب أوزانه المتراجعة في موازين القوى اللبنانية والإقليمية. يمتلك الحريري أكبر كتلة في البرلمان اللبناني، إلا أن نوابه لا يجمعون على انتخاب عون رئيساً، بل وأعلنوا عن معارضتهم ذلك وفي مقدمهم رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة. كان انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان دوماً نتاج توافق إقليمي متأسس على موازين القوى، ولا يبدو أن تفاهماً إقليمياً سعودياً ـ إيرانياً حول الرئاسة اللبنانية أو حتى تفاهماً إقليمياً من أي نوع مرتسم في الأفق. على ذلك، لا يبدو سعد الحريري الطرف الذي ينتظر قبض الأثمان من تسوية رئاسية كما يتصور هو ويقول فريقه، وإنما الطرف الذي ينتظر منه دفع الأثمان جراء هزيمة تياره أمام «حزب الله» في لبنان. ولعل ما يؤخر التسوية النهائية قبل تسميته رئيساً للوزراء من جديد هو «عملية إخراج التنازلات» كما كان الأمر في الدوحة 2008 بالمقعدين النيابيين المخصصين للأرمن، وكان المُخرج نبيه بري. من يخرج التنازل الجديد في الغرف المغلقة الآن؟ وهل يكفي الوقت المتبقي حتى نهاية الشهر الجاري لطبخ التسوية الجديدة؟ بغض النظر عن البلاغات اللغوية والتكاذب السياسي الطبيعي من كل الأطراف، سيكون سعد الحريري هو المرشح الأنسب لمنصب رئيس الوزراء وميشال عون أو غيره المرشح الأنسب لرئاسة الجمهورية من منظار «حزب الله» ومؤيديه، طالما سيعاد توزيع حصص السلطة على الطاولة المحلية بما يعكس الأوزان الراهنة!